على أن هناك حقيقة لا بد من تقريرها هنا، وهي أن الزمخشرى في تفننه وعلو همته، ورسوخ قدمه في أفانين القول، لم يكن ليبلغ ما بلغه عبد القاهر من طول النفس وامتداد جذوره إلى أغوار المعاني، والوصول إلى بديع الصنعة البلاغية.
وسأضرب مثالًا واحدًا على ذلك: يقول الزمخشرى عند تفسيره قول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}[الجمعة: ٥] شبه اليهود، في أنهم حملة التوراة وقراؤها. وحفاظ ما فيها، ثم إنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها، وذلك أن فيها نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والبشارة به ولم يؤمنوا به، لذلك شبههم بالحمار يحمل أسفارًا أى كتبًا كبارًا من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل بعلمه، فهذا مثله وبئس المثل).
ولنستمع لعبد القاهر يبين مكنون هذا التشبيه ويظهر روعته ويجلي كل ما يتعلق به (١). (الشبه منتزع من أحوال الحمار، وهو أنه يحمل الأسفار التي هي أوعية العلوم ومستودع ثمر العقول، ثم لا يحس بما فيها ولا يشعر بمضمونها، ولا يفرق بينها وبين سائر الأحمال التي ليست من العلم في شيء، ولا من الدلالة عليه بسبيل. فليس له مما يحمل حظ، سوى أنه يثقل عليه ويكد جبينه. فهو كما ترى مقتضى أمور مجموعة، ونتيجة لأشياء ألفت وقرن بعضها إلى بعض. بيان ذلك أنه احتيج إلى أن يراعى من الحمار فعل مخصوص، وهو الحمل، وأن يكون المحمول شيئًا مخصوصًا، وهو الأسفار التي فيها أمارات تدل على العلوم، وأن يثلث ذلك بجهل الحمار ما فيها، حتى يحصل الشبه المقصود .. ).
إلى أن يقول: (وإذ قد عرفت هذا، فالحمل من هذا القبيل أيضًا، لأنه يتضمن