بالعقيدة النقية، وفي هذا الدور كثر التجادل والتنابذ في أصول العقائد، وكان اختلاف الناس في المدارك وتباينهم في درجات التصور سببًا في انفراج مدى المذاهب بينهم، فأخذ كل فريق يجهد عقله ويعمل فكره على حقية الصفات التي يعزوها للخالق جل شأنه، ويكلف نفسه الإتيان بمزاعم خصمه، ويكر عليه بالحجج الداحضة.
[الدور الثالث: دور العلم]
لم يمر على حفظة العقاثد دورًا أشد هولًا من هذا الدور، على أن حدوثه جمع ما فيه من إفراط وتفريط وغلواء وسفسطة وعناد ومغالطة كان أمرًا منتظرًا، لا بل حادثًا طبيعيًا؛ لأن كل الرذائل التي شوهت وجه هذا الدور كان لها مقدمات تقتضيها في الدور الذي سبقه، فلم تكن لتوجد هذه لو لم تكن تلك.
ارتكب حملة بعض الكتب السماوية غلطات إفراطية، منها الضغط على حرية العقل والعلم، وزعمهم أن العقل عدو الدين، وكانوا كلما أوغلوا في الظلم انفجرت ينابيع مواهب الناس وملكاتهم، حتى تكافأت القوتان.
أما أصحابنا نصراء الحرية العقلية، وزعماء العلوم الطبيعية والفلسفية فقد انتشوا بالانتصار، وازدهتهم تلك الحرية المطلقة، فجاوزوا تخوم الاعتدال، فمنهم من ترك المعتقداتِ وشأنها حقيقة كانت أو باطلة، وأكبّ على دراسة المادة وحدها، ومنهم من أطلق لنفسه عنان الحرية في الاعتقاد، وكون لنفسه دينًا خاصًّا بها، وبقيت العامة بين هذه المذاهب المتشاكسة، فأدتها تلك الحيرة الشديدة إلى مجافاتها كلها دفعة واحدة.
[الدور الرابع: رجوع الإنسان لدين الفطرة]
عادت الطبيعة البشرية إلى تلمّس العقيدة النقية، وهذا يعدّ من أكبر مميزات القرن التاسع عشر، لم يجد الإنسان الحالي محيصًا أمامه إلا الرجوع إلى أصل الفطرة