ولقد كانت الحياة الثقافية ضعيفة في عصره، فلا مدارس ولا معاهد ولا جامعات، والطباعة ضعيفة، وكان اعتماد القلة من الناس على الكتاتيب، وحلقات الجوامع والدروس الخاصة في البيوت، وكان حال الحياة الدينية نتيجة طبيعية للحياة الثقافية، ولكن الشيخ لم يقنع بما قنع به الكثيرون من أبناء عصره، فكان ينمي ثقافته دائمًا بمختلف العلوم وأنواع المعارف، ويدلنا على ذلك مكتبته التي تزيد على ألفي مجلد، وليست محتوياتها العلوم اللغوية والشرعية فحسب، بل تعدتها إلى كتب الفلسفة والقانون، وكتب الفرق الإسلامية والديانات والعلوم الحديثة، ووجود المكتبات وحده لا يدل على زياد علم، فنحن مبتلون اليوم بهذا الداء: كثرة الكتب مع قلة القراءة والاطلاع، ولكن القاسمي رحمه الله، قل أن يوجد كتاب في مكتبته إلا وله فيه تصحيح أو حاشية أو تعليق، ولقد ساعده على ذلك حبه الرحلة للاتصال بمشاهير العلماء في عهده، فرحل إلى مصر حيث التقى بالإمام محمد عبده، وكان من المعجبين به.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا في وصف القاسمي (كان من أكمل ما رأيت في آدابه وأخلاقه وشمائله ... وكان تقيًا ناسكًا واسع العلم، سليم القلب، نزيه النفس واللسان والقلم برًا بالأهل وفيًا للإخوان، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، عائلًا عفيفًا قانعًا ... ومن عظيم همته أنه شدّ الرحال إلى البلاد الحجازية في غير موسم الحج للاطلاع على كتاب المحلى لابن حزم لعدم وجوده في دمشق ... )(١).
ويقول الأمير شكيب أرسلان: ويمكنني أن أقول: إنه لم يعط أحد شطر الجمال المعنوي الذي يحبه الله تعالى، ويشغف به عباد الله سبحانه، بدرجة المرحوم جمال الدين القاسمي الدمشقي الذي كان في هذه الحقبة الأخيرة جمال دمشق، وجمال القطر الشامي في غزارة فضله وسعة علمه وشغوف حسه، وذكاء نفسه وكرم