متممًا لتلك الحلقة، وذلك بكتابه الذي شاع صيتًا وعم انتشارًا واتسع شهرة، ولم يشتهر كتاب شهرته وهو كتاب (إعجاز القرآن). فلقد صال فيه وجال وأنجد وأتهم، فرد على الملاحدة، ونفى الشعر والسجع كليهما عن القرآن، وقد يكون تكلف لذلك، ووازن بين النص القرآني وغيره من الشعر والنثر فبخس الشعراء كثيرًا ظانًا أن ذلك مما يخدم النص القرآني، مع أن العكس هو الصحيح ولكنه فسر لنا بعض الآيات والسور، فكان موفقًا في استجلاء الألفاظ واستخراج المعاني، وبخاصة أن حديثه لم يقتصر على الجملة القرآنية، بل فطن إلى الوحدة في السور القرآنية، تدرك هذا وأنت تجده يربط بين الآيات، مبينًا ما بينها من صلاتٍ ووشائج، ولعله أول من ركز على هذه القضية الخطيرة الشأن.
[نظرية عبد القاهر وإبداعه]
وبانتهاء هذه المرحلة التي اشتركت فيها جهود اللغويين والمتكلمين، والتي وصلت إلى نتائج كان لها أثر لا ينكر في إلقاء الظلال الأولى على نظرية الإعجاز، التي كانتا الأساس الذي بنيت عليه موحلة تالية، كان فيها الجدة والإبداع والابتكار ما تستريح له النفس، وتقر به العين، وأعنى بتلك المرحلة التالية، نظرية عبد القاهر الجرجاني، وهي النظرية التي كانت أنموذجًا تامًّا، رأينا تطبيقه العملي في كتاب الكشاف.
لقد درس عبد القاهر النحو على يد أبي الحسين الفارسي، الذي كان يعد إمامًا فيه بعد خاله أبي علي الفارسي (١). وتأثر بتلك الدراسة في نظريته التي كانت سبب شهرته. ووضع عبد القاهر كتابين هما:(دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة). وهما من خير الكتب في هذا الفن قديمها وحديثها، إذ تحدث عن البلاغة في أصالة معناها وسمو هدفها وغايتها، قبل أن تكدر مواردها العذبة بالأجاج الذي لا يستحلى، والذي حولها إلى مجموعة من المصطلحات والتعقيدات التي لا تنفذ من
(١) البلاغة تطور وتاريخ، دار المعارف، ١٩٦٥، ص ١٦٠.