لم يكن إطناب الشيخ في تفسير آيات الأحكام بأقل من إسهابه في مسائل اللغة، بل هو في هذه أكثر تعليقًا وأشد تحقيقًا. ذلك أن مسائل اللغة، ليس فيها خلاف كمسائل الفقه من جهة، ولا تلتصق بواقع الحياة العملية من جهة أخرى، ولما كانت آيات الأحكام قد جاءت في الأجزاء الأولى من القرآن، وهي الأجزاء التي هيئ للشيخ أن يفسرها، فإن من الممكن القول بأننا نستطيع أن نأخذ صورة وافية عن آيات الأحكام في تفسير المنار، وأول ما أقرره هنا أن منهجه في تفسيره لآيات الأحكام، تظهر فيه الميزات التالية:
أ - حكمة التشريع وما يهدت إليه من سعادة الإنسان. فقلما يمر باية من آيات الأحكام، إلا ونجده ينبري لبيان ما تشتمل عليه من مصالح للفرد أو للجماعة، سواء أكانت روحية أم مادية، نجد هذا واضحًا في آيات الحج والصوم والقصاص وغيرها، وهو في أثناء ذلك كله يبين عظمة الإسلام، ويرد كل ما يعرض له في طريقه من شبهات ومطاعن، مبينًا لا صلاحية الأحكام فحسب، بل تفوقها على ما عداها. وهذا ليس في المعاملات وما يتصل بها من القانون المدني والجنائي وغيرهما فحسب، بل تظهر كذلك في العبادات كالوضوء والغسل وسائر العبادات وإليكم بيانه لحكم مشروعية الوضوء والغسل. يقول:
( ..... ولما بين فرض الوضوء وفرض الغسل، وما يحل محلهما عند تعذرهما أو تعسرهما، تذكيرًا بهما ومحافظة على معنى متعبد فيهما، وهو التيمم - بين حكمة شرعهما لنا مبتدئًا ببيان قاعدة من أعظم قواعد هذه الشريعة السمحة فقال:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}[المائدة: ٦] أي مما يريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم في هذه الآية - ولا في غيرها أيضًا - حرجًا ما، أي أدنى ضيق وأقل مشقة، لأنه تعالى غنى عنكم، رؤوف رحيم بكم، فهو لا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والنفع لكم، {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}[المائدة: ٦] من القذر