للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منفذ الوجدان، وإنما منفذها الوحيد العقل الذي تعود الممارسة، فصار الباب الذي تلج منه كأنها والفلسفة شريكان، لقد جاء عبد القاهر والناس مختلفون بين نصير للفظ يراه سبب البلاغة، ومقدم للمعنى يرى له الشرف والسبق، فوضع نظريته في المعاني. نظرية النظم، وأساسها الذي تقوم عليه أن اللفظ لا ينظر إليه من حيث هو لفظ، وأن المعنى لا ينظر إليه من حيث هو معنى، وإنما ينظر إلى الأول من حيث هو قالب للمعنى، وينظر إلى الثاني من حيث هو معبر عنه بهذا اللفظ. وتلك النظرية هي التي خصها بكتاب (دلائل الإعجاز). بقي أن جمال هذا النظم، إنما يعظم ويحسن بقدر تأثيره في النفوس. وهذه خصها بكتابه الثاني (أسرار البلاغة). ولقد كانت دراسته فتحًا جديدًا في هذه الفنون، وهو يطبق ذلك على آي الكتاب العزيز.

ونستطيع أن نتبين حذق الرجل وهو يحدثنا عن جمال النظم، وتأثيره في النفوس، في مثل قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: ٤] حيث يذكر أن الفضل هنا ليس للاستعارة وحدها، بل لطريقة النظم، فقد جيء بهذا التمييز محولًا عن الفاعل، إذ الأصل (واشتعل شيب الرأس). وهكذا يبين لنا أسباب حذف المفعول، في مثل قول الله تعالى. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩]، وحالات الفصل والوصل في آيات كيرة، وعن معنى التشبيه في مثل قول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: ٥] تلك القواعد المتكاملة التي وضعها عبد القاهر.

[الزمخشري]

جاء الزمخشري ليطبق جزئيات نظرية عبد القاهر، بحذافيرها كاملة غير منقوصة، في تفسير الكشاف، الذي كان مادة غزيرة لمن جاء بعده، والزمخشري إذ يطبق قواعد عبد القاهر، ليس معنى هذا أنه كان ناقلًا مترجمًا، وإنما أعطى الرجل

<<  <  ج: ص:  >  >>