تركه في مواضع أخرى، والمجئ لضمير الفصل، وتعريف الخبر. وهكذا نعيش مع الكشاف، ليكشف لنا عن تلك الحقائق البيانية بما لا يدع مزيدًا لمستزيد. فها هو يبين السر الذى قال الله من أجله {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ}[النساء: ٥] دون كلمة منها.
والسر البلاغي في قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} وسر العطف وتركه، في قول الله تعالى:{مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}[التحريم: ٥].
لقد كان الزمخشري معتزليًّا كما نعلم، فبينه وبين الأشاعرة ما لا يخفى، ومع ذلك فلقد كان تفسيره المرجع الذي ينهل منه جميع العلماء وإذا كان ابن المنير الذي نراه يقسو على الزمخشري كثيرًا، قد لاحقه في كل ما كتب، فإنا نرى أن الزمخشري يأبى إلا أن ينتزع منه الاعتراف له بالفضل في مواضع كثيرة أكتفي بذكر موضع واحد، عند تفسير قول الله تعالى:{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}[النحل: ١١٢] حيث يقول الزمخشري: فإن قلت الإذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار، فما وجه صحة إيقاعها عليه؟ أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها.
فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه العذاب: شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم، بما يدرك كم طعم المرارة. أما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس. ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث، وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس. فكأنه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف (١). قال أحمد بن المنيّر وهذا الفصل من كلامه يستحق على علماء البيان أن يكتبوه بِذَوْب التبر لا بالحبر).