وأما المتشابه فمعناه في أصل اللغة أن يكون أحد الشيئين مشابهًا للآخر، ولما كان من شأن المتشابهين تعذر التمييز بنيهما، أطلق هذا الاسم على كل ما لا يهتدي الإنسان إلى حقيقة المراد منه، من باب إطلاق اسم السبب على المسبب، ومما جاء فيه التشابه بمعنى تعذر التمييز قوله تعالى:{إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا}[البقرة: ٧٠]. ومما جرى على هذا الوجه قولهم: اشتبه عليَّ الأمر.
وأما معنى المحكم والمتشابه في عرف الشريعة، فقد اختلفت فيه آراء أهل العلم، ولا نطيل البحث بإيراد الأقوال الضعيفة ومناقشتها وإنما نعمد إلى قولين مشهورين بين أهل العلم، وننظر في أدلتهما فنعلم أيهما أوفق لحكمة الشريعة، وأقرب إلى فهم قوله تعالى:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}[آل عمران: ٧].
وأول القولين أن المحكم: ما اتضحت دلالته، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، وهذا مذهب من يؤمنون بالمتشابه، ويفوضون العلم به إلى الله تعالى، وبهذا سمُّوا "مفوضة" وينسب هذا المذهب إلى جمهور السلف. والمفوضة يتفقون على صرف الألفاظ في المتشابه عن معانيها المعروفة عند العرب، وهم بعد هذا فريقان: فريق لا يتعرضون إلى المعنى المراد ولو بوجه مجمل، وفريق قد يعينون نوع المجاز كأن يحملوا الاستواء في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} والوجه في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} على أنه صفة من صفات الله، ولكنهم يفوضون معنى هذه الصفة إلى الله تعالى، وهذا ما ينسب إلى الأشعري وأكثر السلف.
وثاني القولين المشهورين أن المحكم ما اتضحت دلالته، والمتشابه ما كان خفيَّ الدلالة، وهؤلاء يؤولون المتشابه على ما ترتضيه أفهامهم من المعاني، فيخرج من الخفاء إلى وضوح، ولهذا سمُّوا "مؤولة" والتأويل أما بحمل الألفاظ على الحذف أو المجاز المفرد، وأما بحملها على طريقة التمثيل.