ونختار بعد هذا أن في القرآن آيات متشابهات أي غير واضحة الدلالة، فإما أن تصل إليها أفهام الراسخين في العلم بعد النظر، وإما أن تصل إليها أفهام بعض منهم دون بعض، وفهمها إما أن يكون على وجه مفصل، وإما أن يكون على وجه مجمل تحصل به فائدة للمخاطب وإن لم يصل إلى كنه المراد منه، كالآيات والأحاديث الواردة في بعض أحوال يوم القيامة، أما أن يخاطب الله عباده بكلام يستأثر بعلمه، ولا يفهم منه أحد ماذا أريد منه ولو بطريق الإجمال، فذلك ما نراه بعيدًا، ولم تقم أدلة تلجئنا إلى اعتقاد وجوده.
لا يظهر للمتشابه على مذهب المفوضة فائدة سوى ابتلاء العبد بتلاوة كلمات تعلو من فهمه، ولكنه يتيقن أنها حق، ويفوض أمرها إلى الله، مقرًّا بالعجز عن الوصول إلى معناها، وذلك دليل قوة الإيمان.
وأما على مذهب المؤولة فله فوائد متعددة، منها أن وجود المتشابه في الشريعة يجعل في الوصول إلى المراد صعوبة ومشقة، وذلك موجب لزيادة الثواب عند الله، ومنها أن وجود المتشابه يدعو الإنسان إلى الرجوع إلى الأدلة النظرية، فيصل إلى الحقائق من طرق الاستدلال، ويتخلص من أسر التقليد، ومنها أن البحث عن المراد من المتشابه يعلم الإنسان طرق التأويل ووجوه ترجيح بعض هذه الطرق على بعض، قال الطيبي مشيرًا إلى هذا الوجه:"إنما كان المتشابه في القرآن لأنه باعث على تعلم علم الاستدلال، ذلك أن معرفة المتشابه متوقفة على معرفة الاستدلال، فتتوجه الرغبات إليه".
ويذكرون في فوائد ورود المتشابه أن القرآن دعوة للخواص والعوام، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، كإثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه، وقد يسبق إلى ذهنه أن هذا عدم ونفي، فيقع في التعطيل، فكان من الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ يتبادر إلى أذهانهم منها ما يتخيلونه، وذلك هو المتشابه، ويوضع بجانب هذا ما هو حق صريح يدل على أن المراد غير ما سبق إلى