ثم أجاب على من يسأل: لماذا لم تُرتَّب سور القرآن حسب ترتيب نزولها؟ وأن هذا الأمر قد يستغله أعداء الإسلام للطعن في القرآن، فهم يرون أن أتباع سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- رتبوا القرآن دون أي ترتيب يسهل إدراكه وأنهم راعوا حجم السور، فقدموا السور الكبيرة على الصغيرة.
قال: هذه الشكوك مبنية على جهل الحكمة الكامنة في ترتيب القرآن الحالي، فبالرغم من حتمية أن يكون القرآن كتابًا لكل عصر وأوان كان تنزيله لا بد وأن يكون تدرَّج على فترة ظلت ثلاثًا وعشرين سنة، ووفق مستلزمات الأدوار المختلفة التي كانت تمر بها الجماعة المسلمة، ومن الواضح أن تسلسل الوحي الذي كان يناسب التطور التدريجي للحركة الإسلامية لم يعد له وجه مناسب بعد اكتمال القرآن، وهذا استلزام الأمر ترتيبًا آخر يتفق مع الظروف التي تبدلت ويناسبها، فلقد كان القرآن في دور المرحلة الأولى للحركة يخاطب من كانوا على جهل تام بالإسلام، فكان عليه بالطبع أن يعلمهم أسس الإيمان، أما بعد نضوجها واكتمالها اهتم القرآن في المقام الأول بمن أقبلوا على الإسلام، وكونوا جماعة لتنفيذ المهمة التي كلّفهم بها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وواضح من هذا أن ترتيب الكتاب الكامل كان لا بد من اختلافه عن ترتيب نزول آياته الزمني حتى يناسب مستلزمات الأمة الإسلامية في كل العصور والدهور، فكان على القرآن أولًا أن يقف المسلمين على واجباتهم بشأن تنظيم حياتهم، وعلى هذا كان لزامًا أن تكون سورة البقرة ونظيراتها الدنية وليست سورة العلق ومثيلاتها في مستهل القرآن وبدايته.
وثَمَّة أمر آخر ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، وهو أن ليس مما يناسب هدف القرآن وغرضه أن تجمع كافة السور التي تعالج موضوعات متجانسة، ويُصنف بعضها مع بعضها الآخر، ولتفادي النزعة الواحدية في دراسته، كان لا بد -كأمر أساس وجوهري- أن تتخلل السور المكية أخواتها المدنيات، وأن تتبع السورة المدنية قريناتها المكيات، وحتى تظل صورة الإسلام كاملة منشورة أمام القارئ عبر