للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحيلة، فبدأوا يتلمسون المطاعن وهم بباطلها موقنون، ويلقون الشبهات وهم بزيفها مقرون، وفي إيرادها مضطربون يدلك على هذا الاضطراب قوله سبحانه: {بَلْ قَالوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: ٥]. حيث جاءت كلمة (بل) في مواضع متلاحقة، وفي هذا دليل على تخبط القوم فيما يقولون.

ولقد وقف هؤلاء أمام القرآن يخالف ظاهرهم باطنهم، فبينما مشاعرهم ووجداناتهم تتأثر بالقرآن فيخشون هذا على أنفسهم، نجد ألسنتهم تنهى عنه وتنفر منه {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: ٢٦].

ولقد بلغ التعبير القرآني شأوا بعيدًا، وهو يصور ما يعانيه هؤلاء من صراع في داخل أنفسهم، حيث يقول: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} (١) [هود: ٢٠]. لقد أثر القرآن فيهم جميعًا، مؤمنهم وكافرهم، فوقفوا جميعًا أمام عذوبته وهيمنته، فآمن من آمن وكفر من كفر. وإسلام سيدنا عمر رضي الله عنه، وتفكير الوليد وتقديره، حادثتان مشهورتان.

وتأتي بعد ذلك مرحلة التحدي ليأتوا لمثل هذا القرآن، فلم يأتوا. ويرخي لهم العنان، وتحدث تنازلات: فليأتوا بعشو سور مفتريات كما يزعمون، وتستمر تلك التنازلات إلى سورة مثله. كل ذلك في مكة، وتأتي المرحلة الحاسمة في المدينة (٢) {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} ولكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا. فما هو ذلك السر الذي حال بينهم وبين ذلك، فتركوا رصف الحروف إلى تقلد السيوف:

ذلك هو البيان القرآني بأوسع تدل عليه تلك الكلمات. فما الخطوات التي تدرج فيها ابتداء من ذلك العصر، مرورًا بما جادت به قرائح المفسرين والباحثين؟ وما الشبهات المثارة حول التفسير التي لو قدر لها أن تحيا في النفوس لا سمح الله، فإنها تأتي على تراث هذه الأمة، وبنيانها البياني والعلمي من القواعد.


(١) نلاحظ أن القرآن الكريم نفى استطاعة السمع ولم ينفِ عنهم السمع، فلم يقل "ما كانوا يسمعون".
(٢) راجع مراحل التحدي في كتابنا إعجاز القرآن.

<<  <  ج: ص:  >  >>