للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف نفسها، فيما هي له من أمر الفصاحة، فيهيأ بعضها لبعض ... حتى إنّ الحركة، ربَّما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تعذب ولا تساغ .. فإذا هي استعملت في القرآن، رأيت لها شأنًا عجيبًا ... من ذلك لفظة النذر جمع نذير، فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معًا، فضلًا عن جسأة هذا الحرف، ونبوه في اللسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام، فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه، ولكنه جاء في القرآن على العكس، وانتفى من طبيعته، في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} فتأمل هذا التركيب، وأنعم ثم أنعم على تأمله (١). ويمضي الرافعي في بيان أوجه الجمال في هذا اللفظ، وما أحاط به من أنواع القلقة والمد والغنة.

وهذا مثال آخر، يمسه الرافعي بلطف، ليسفر عن وجه البلاغة، وروعة اللفظ والمعنى فيه دونما تكلف وتصنع. يقول: (وفي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه، وهي كلمة (ضيِزَى) من قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه، ولو أدرت اللغة عليها ما صلح لهذا الموضع غيرها) (٢). ثم يبين الأسرار البيانية في إيراد تلك الكلمة، فالسورة أولًا وهي سورة النجم جاءت على هذه الفاصلة، وثانيًا غرابة هذه الكلمة تتفق تمامًا مع غرابة قسمتهم التي قسموها، من أن لهم الذكر ولله الأنثى، وثالثًا تلاؤم هذه الكلمة مع حالة المتهكم في إنكاره، من إمالة اليد والرأس بهذين المدين فيها إلى الأسفل والأعلى، وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية، ثم يتابع قوله (وإن تعجب فعجب نظم هذه الكلمة الغريبة، وائتلافه على ما قبلها إذ هي مقطعان: أحدهما مد ثقيل،


(١) إعجاز القرآن ص ٢٥٧ - ٢٥٨.
(٢) إعجاز القرآن ص ٢٦١.

<<  <  ج: ص:  >  >>