الآيات في النفس، أعظم وأكثر روعة وأشد أثرًا من تلك.
ويتحدث بعد ذلك، عن التناسق الفني في الآيات، من إيقاع بين أجزائها، وتلاؤم بين ألفاظها ومعانيها، ومواقع كمواقع النجوم لكلماتها فهو مثلًا يحدثنا عن سر التعبير في كلمة (سجى) من قول الله تعالى: {وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} دون (أظلم) ودون (يغشى)، ذلك لأن هذا يتناسب مع السياق الذي جاءت له الآيات، من انقطاع الوحي مدة وفتوره. فما هي إلا حالة تشبه (سجى الليل) دون أن يعم ظلامه، وها هو يحدثنا عن هذا التناسق الفني في سورة الليل {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} إنهما شيئان: أسود وأبيض، ليل ونهار، وكأن الصورة كلها تقوم على ذلك المشهد، فهناك الذكر والأنثى، وأعطى واتقى، وبخل واستغنى، واليسرى والعسرى، والآخرة والأولى، والأشقى والأتقى.
ويبين لنا سر التعبير بكل دقة وحيوية في لفظتين من ألفاظ القرآن "خاشعة وهامدة" في قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً}[الحج: ٥] وقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً}[فصلت: ٣٩] فالمشهد هنا مشهد البعث والإنبات وإحياء الموتى، وإخراج من في القبور، أما هناك في آية فصلت فالمشهد الخضوع والخشوع والسجود، من الليل والنهار والشمس والقمر، فلا بد أن تشارك الأرض كذلك، ولهذا لم يقل هنا {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} بينما قالها هناك.
كما يحدثنا دون تكلف عن سر الإعجاز في الفاصلة القرآنية، وسر تغيرها، فهذه الفاصلة في سورة مريم، وهي تتحدث عنها وعن عيسى عليه الصلاة والسلام، وفجأة وإذا بالفاصلة تتغير، {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ}[مريم: ٣٤] لماذا؟ يقول:(إنه الحكم يصدر، ولهجة صدور الحكم تختلف عما قبلها من لهجات المرافعة والادعاء).
وهكذا نسير معه والآيات تسير به، وهكذا تنكشف للناظر في القرآن آفاق وراء آفاق من التناسق والاتساق: (فمن نظم فصيح إلى سرد عذب، إلى معنى مترابط، إلى