نفسها، المنحصرة في مضاربها تفجر طاقات الكون، وهي تجوب آفاق الأرض التي جعلها الله لها ذلولًا، لتمشي في مناكبها غير معتدية أو سالبة، وإنما هي فاتحة للعقول قبل البلاد، لقد نمت دعوة القرآن للعلم، فأحيت أمة من أجداثها، وإذ بهذه الأمة الأمية، والتي منّ الله عليها بالهداية، يصبح كل بيت من بيوتها، ومسجد من مساجدها، موئلًا للعلم، يأتيه الناس على اختلاف لغاتهم وأديانهم من كل فج عميق. ليشهدوا منافع لهم. هذه حقيقة لا يختلف فيها اثنان، ولا يشك فيها عدو.
وهناك بَدَهِيَّة أُخرى، وهي أن هذا القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعلى رغم اكتشاف كثير من المجاهيل، وعلى رغم تقدم الإنسان في مضمار العلم، وآفاق الكون الفسيحة -لا يتعارض مع المسلمات الصحيحة التي وصل إليها الإنسان فضلًا عن أن يناقضها. وهذه البدهية التي لا يختلف فيها اثنان كذلك، نجد مع كل أسف بعضًا ممن ينتسبون لهذه الأمة بأسمائهم فحسب، ممن رانت نخالات الأفكار الغربية على عقولهم، يمارون فيها، لأنهم حجبوا بالهوى وأسروا بالتقليد.
والخلاصة أن القرآن بدعوته المفتوحة للعلم، بنى حضارة شامخة سعدت بها الإنسانية حينًا من الزمن، وأن هذا القرآن لن يناقضه علم كوني صحيح. وإذا كان هذا كله ليس محل خلاف وجدل، فإن هناك قضية أخرى، اختلفت فيها كلمة العلماء قديمًا وحديثًا، ولكن خلافهم هذا منبعث من حرصهم على هذا القرآن وناشئ عن إجلالهم له، ودفع كل شبهة تقوم حوله. هذه القضية هي: هل ينبغي أن تفسر آيات القرآن تفسيرًا علميًّا حسب ما توصل إليه الإنسان من نتائج؟ وبعبارة أخرى هل في آيات القرآن إشارات لقضايا العلوم الكونية ودقائقها؟ .
هذا التساؤل يتطلب مني أن أعرض لآراء العلماء المانعين والمثبتين، مثبتًا أدلتهم مناقشًا لها مبديًا ما أراه بعد ذلك.
ولما كانت انطلاقة التفسير الحديث إنما بدأها الإمام الشيخ محمد عبده، فمن الواجب أن أعرض لرأي مدرسته في التفسير العلمي، وفي المرحلة التالية أورد بعض النماذج من هذا التفسير معلقًا عليها حسب ما أرتئيه في الموضوع.