التفسير التي نهجت هذا النهج، والتي سأعرض لها في الباب الثاني إن شاء الله.
وهناك بعض الكتب لم يلتزم أصحابها موضوعًا معينًا، جمعوها متفرقات من هنا وهناك. فجاءت مزيجًا فيها ما يشتهى وما ليس كذلك ويغلب عليهم أنهم غير متخصصين فيما كتبوا فيه. كما فعل الأستاذ علي فكري في كتابه (القرآن ينبوع العلوم والعرفان) وقد جعله في ثلاثة أجزاء ضمنها جميع العلوم من طب وفلك وصحة وجغرافية وتاريخ وكهرباء وطيران وملاحة ورياضة. ولم يذكر العلوم التشريعية والفلسفية لأن لها كتبها الخاصة بها. ويقول في آخر الجزء الثاني:(إن كلّ ماله في هذا الكتاب هو جمعه). فهو إلى المتعة أقرب منه إلى الفائدة.
وخلاصة القول على ضوء ما تقدم كله، أنني لست مع هؤلاء الذين يريدون أن يستنبطوا العلوم كلها من فواتح السور، بضم بعضها إلى بعض، أو من بعض الكلمات الواردة في القرآن، وبأن في القرآن عشرات الآلاف من العلوم كما فعل الأقدمون، ولا مع هؤلاء المحدثين الذين يريدون أن يطوعوا آيات القرآن للنظريات الحديثة في علم الكون، فيثبتوا من قريب أو من بعيد، وبيسر وتكلف، أنه ما من نظرية إلا والقرآن قد أشار إليها وتحدث عنها، كهذا الذي سُئل: هل ذكرت الفنادق في القرآن؟ فقال نعم أفلا تقرأ قول الله:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ}[النور: ٢٩].
لقد أفرط هؤلاء والإفراط لا يحمد، ولا تحمد عقباه، ولكن في الوقت نفسه، فإني لا أرى مسوغًا لما ذهب إليه الفريق الآخر، الذين أبوا وبكل ما أوتوا من قوة، أن تفسير الآيات تفسيرًا تجلى فيه بعض دقائق الكون وقوانين العلم، بحجة أنَّ القرآن كتاب هداية. وهداية القرآن لا ينازع فيها أحد، ولكن ما الذي يمنع - ودقة القرآن في تعبيره وسلامته في حقائقه لا يخالف فيها هؤلاء - أقول ما المانع أن نبحث عن هذه الدقة، وهي التي تحدثنا عن الكون وأصل خلقه وما بث فيه، وعن الحياة ونشأتها، وعن الإنسان في أطواره والأدوار التي مر بها؟ لا أرى مانعًا