كلام الأستاذ نفسه، وبعد أن اتصل بالأفغاني لم يحاول هذا الأخير أن يقتلع جذور التصوف من قلب الشيخ، لكنه هذبه ونظمه ليكون خالصًا من التشويش والسلبية ولقد مرت حياة الشيخ بمراحل متعددة ذات آثار مختلفة في الفكر والسياسة والاجتماع. ومع هذا كله فلقد بقي للتصوف في نفس الأستاذ جذوره وآثاره. وإن هذه الآثار لتبدو في مظاهر متعددة في التفسير وغير التفسير. ويغلب على الظن أن لحجة الإسلام الغزالي الأثر الكبير في ذلك (١). يذكر العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله، أنه لما جاء مصر والتقى بالأستاذ الإمام حبّب إليه اختصار كتاب (الإحياء) ليستفيد منه الناس، وكان القاسمي سريعًا في تلبية الطلب، وتنفيذ تلك الرغبة. فاختصره في كتاب سمّاه (موعظة المؤمنين). وهذا الطلب من الأستاذ الإمام لم يكن في أول حياته طبعًا. وهذا يدلنا على تأثره بهذا الكتاب من ناحية، واهتمامه بالنواحي الروحية من ناحية. وسنجد في ثنايا التفسير ما يثبت ذلك.
يقول في شرح معنى التوبة عند تفسير قوله تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}[البقرة: ٥٤] في سورة البقرة، إنها محو أثر الرغبة في الذنب من لوح القلب.
والباعث عليها هو شعور التائب بعظمة من عصاه، وما له من السلطان عليه في الحال، وكون مصيره إليه في المآل، لا جرم أن الشعور بهذا السلطان الإلهي، بعد مقارفة الذنب، يبعث في قلب المؤمن الهيبة والخشية، ويحدث في روحه انفعالًا مما فعل، وندمًا على صدوره عنه، ويزيد هذا الحال في النفس تذكر الوعيد على ذلك الذنب، وما رتبه الله عليه، من العقوبة في الدنيا والآخرة. هذا أثر التوبة في النفس وهذا الأثر يزعج التائب إلى القيام بأعمال تضاد ذلك الذنب الذي تاب منه، وتمحو أثره السيء، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود: ١١٤] فمن علامة التوبة النصوح: الإتيان بأعمال تشق على النفس، ما كانت لتأتيها لولا ذلك الشعور الذي
(١) يذكر الأستاذ الأكبر (المراغي) رحمه الله، أنه ليلة سفره إلى السودان في سنة ١٩٠٤ م، وهذا في أواخر حياة الإمام ذهب لزيارته فأوصاه أن يصحب كتاب الإحياء.