وقالوا إن الوصول إلى العرفان المطلق، لا يكون إلا بهذا ثم أحدثوا إظهار قبور من يموت من شيوخهم، والعناية بزيارتها لأجل تذكر سلوكهم ومجاهدتهم وأحوالهم ومشاهدتهم، لأن التذكر من أسباب القدوة، والتأسي هو طريق التربية القويم عندهم وعند غيرهم.
فظهر من هذا الإجمال أن قصدهم في هذه الأمور كان صحيحًا، وأنهم كانوا يريدون الخير المحض ... ولكن ماذا كان أثر ذلك على المسلمين؟ كان منه أن مقاصد الصوفية الحسنة قد انقلبت ولم يبق من رسومهم الظاهرة إلا أصوات وحركات، يسمونها ذكرًا، يتبرأ منها كل صوفي، وإلا تعظيم قبور المشايخ تعظيمًا دينيًا، مع الاعتقاد بان لهم سلطة غريبة تعلو الأسباب التي ارتبطت بها المسببات بحكمة الله تعالى، بها يديرون الكون، ويتصرفون فيه كما يشاءون، وأنهم قد تكفَّلوا بقضاء حاجة مريديهم والمستغيثين بهم أينما كانوا. وهذا الاعتقاد هو عين اتخاذ الأنداد، وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف من الصحابة وأئمة التابعين والمجتهدين.
وزادوا على هذا شيئًا آخر، هو أظهر منه قبحًا وهدمًا للدين، وهو زعمهم أن الشريعة شيء والحقيقة شيء آخر، فإذا اقترف أحدهم ذنبًا فأنكر عليه منكر، قالوا في المجرم إنه من أهل الحقيقة، فلا اعتراض عليه وفي المنكر إنه من أهل الشريعة فلا التفات إليه. كأنهم يرون أن الله تعالى أنزل للناس دينين، وأنه يحاسبهم بوجهين، ويعاملهم معاملتين -حاشا لله- نعم جاء في كلام بعض الصوفية ذكر الحقيقة مع الشريعة، ومرادهم به أن في كلام الله ورسوله ما يعلو أفهام العامة، بما يشير إليه من دقائق الحكم والمعارف، التي لا يعرفها إلا الراسخون في العلم .. فهذا ما يسمونه علم الحقيقة لا سواه، وليس فيه شيء يخالف الشريعة أو ينافيها ... هكذا كان القوم: الصوفيون الحقيقيون في طرف، والفقهاء في طرف آخر، وبعد ما فسد التصوف وانقلب من حال إلى حال مناقضة لها، وضعف الفقه، فصار مناقشة لفظية في عبارات