حوّل وجهه؛ إعراضاَّ عَنه، من باب التنزّه، فهو وإن كان مباحاً لعوامّ الناس، فمقام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتنزّه عنه، والله تعالى أعلم. (فَدَخَلَ أَبُو بَكْرِ) ويروى: "وجاء أبو بكر"، وفي رواية للبخاريّ:"ودخل عليّ أبو بكر"، وكأنَه جاء زائراً لها، بعد أن دخل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بيته، وَيحْتَمِل أن يكون مجيئه لمنعه الجاريتين المذكورتين عن الغناء (فَانْتَهَرَنِي) أي: زجرني، وفي رواية الزهريّ السابقة:"فانتهرهما"؛ أي: الجاريتين، ويُجمع بينهما بأنه انتهر عائشة - رضي الله عنها -؛ لتقريرها ذلك، وانتهرهما؛ لفعلهما ذلك في بيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.
(وَقَالَ: مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) وفي رواية البخاريّ: "مزمارة الشيطان"، وهي: بكسر الميم يعني: الغناء، أو الدفّ، وهمزة الاستفهام قبلها مقدَّرة، وهي مشتقة من الزمير، وهو الصوت الذي له صفير، وسميت به الآلة المعروفة التي يُزمر بها، وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها تُلْهي، وتَشْغَل القلب عن الذكر، وقد تقدّم قريباً تمام البحث فيه.
(فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ) أي: على أبي بكر - رضي الله عنه - (رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) وفي رواية الزهريّ عند البخاريّ: "فكشف النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن وجهه"، وفي رواية فُلَيح:"فكشف رأسه"، وقد تقدّم أنه كان ملتفًّا (فَقَالَ:"دَعْهُمَا") أي: اتركهما، وفي بعض النسخ:"دعها" بالإفراد، والضمير لعائشة، وفي رواية هشام:"يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا"، وهذا تعليل لنهيه - صلى الله عليه وسلم - إياه بقوله:"دعهما"، وبيانٌ لخلاف ما ظنه أبو بكر من أنهما فعلتا ذلك بغير علمه؛ لكونه دخل، فوجد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - مُغَطَّى بثوبه، نائماً، ولا سيما كان المقرَّر عنده منع الغناء واللهو، فبادر إلى إنكار ذلك؛ قياماَّ عَن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، مستنداً إلى ما ظهر له، فأوضح له النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الحال، وعرّفه الحكم، مقروناً ببيان الحكمة بأنه يوم عيد؛ أي: يوم سرور شرعيّ، فلا يُنكَرُ فيه مثلُ هذا، كما لا يُنكر في الأعراس.
وبهذا يرتفع الإشكال عمن قال: كيف ساغ للصدّيق - رضي الله عنه - إنكار شيء أقرّه النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ وتكلّف جواباً لا يخفى تعسّفه، قاله في "الفتح"(١).
وقال في "العمدة": قوله: "إن لكل قوم عيداً" أي: إن لكل طائفة من