للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وأما إن عَنَى بظاهره ما هو المفهوم منه، كما سنفسره - إن شاء الله - فنعم، فإن عامة علماء السلف يُقِرُّون هذه الأحاديث، ويُمِرّونها كما جاءت، ويَكرهون أن تُتَأَوّل تأويلات تُخرجها عن مقصود رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نُقِل كراهة تأويل أحاديث الوعيد عن سفيان، وأحمد بن حنبل، وجماعة كثيرة من العلماء رحمهم الله تعالى، ونَصَّ أحمد على أن مثل هذا الحديث لا يُتَأَوَّل تأويلًا يخرجه عن ظاهره المقصود به، وقد تأوله الخطابيّ وغيره تأويلات مستكرهة، مثل قولهم: لفظه لفظ الخبر ومعناه النهي، أي ينبغي للمؤمن أن لا يفعل ذلك، وقولِهم: المقصود به الوعيد والزجر دون حقيقة النفي، وإنما ساغ ذلك لِمَا بين حاله وحال من عُدِم الإيمان من المشابهة والمقاربة، وقولِهم: إنما عُدِم كمال الإيمان وتمامه، أو شرائعه وثمراته، ونحو ذلك، وكل هذه التأويلات لا يَخفى حالها على من أمعن النظر.

فالحق أن يقال: نفس التصديق المفرِّق بينه وبين الكافر لم يَعْدَمه، لكن هذا التصديق لو بقي على حاله لكان صاحبه مصدقًا بأن الله حَرَّم هذه الكبيرة، وأنه توعد عليها بالعقوبة العظيمة، وأنه يَرَى الفاعلَ ويشاهده وهو سبحانه وتعالى مع عظمته وجلاله وعلوه وكبريائه يمقت هذا الفاعلَ، فلو تصور هذا حقَّ التصور لامتنع صدور الفعل منه، ومتى فعل هذه الخطيئة فلا بد من أحد ثلاثة أشياء: إما إضطراب العقيدة بأن يعتقد بأن الوعيد ليس ظاهره كباطنه، وإنما مقصوده الزجر، كما تقوله المرجئة، أو أن هذا إنما يحرم على العامّة دون الخاصّة، كما يقوله الإباحية، أو نحو ذلك من العقائد التي تُخرج عن الملة، وإما الغفلة والذهول عن التحريم، وعظمةِ الربّ، وشدة بأسه، وإما فرط الشهوة، بحيث يقهر مقتضى الإيمان، ويمنعه موجبه، بحيث يصير الاعتقاد مغمورًا مقهورًا، كالعقل في النائم والسكران، وكالروح في النائم.

ومعلوم أن الإيمان الذي هو الإيمان ليس باقيًا كما كان؛ إذ ليس مستقرًّا ظاهرًا في القلب، واسم المؤمن عند الإطلاق إنما ينصرف إلى من يكون إيمانه باقيًا على حاله عاملًا عمله، وهو يُشبه من بعض الوجوه روح النائم، فإنه سبحانه وتعالى يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، فالنائم ميت من وجه حيّ من وجه، وكذلك السكران والْمُغْمَى عليه عاقل من وجه وليس بعاقل من وجه.