وهذا اختيار أبي جعفر الطبريّ من المتقدّمين، ورجحه ابن المرابط، وعياض، ومن تبعه، ونصره ابن تيمية، وجماعة من المتأخرين، واستشهدوا له بحديث قيلة -بفتح القاف، وسكون التحتانية -بنت مخرمة- بفتح الميم، وسكون المعجمة -الثقفية - رضي الله عنها - قال: قلت: يا رسول الله قد ولدته، فقاتل معك يوم الربَذَة، ثم أصابته الحمّى، فمات، ونزل عليّ البكاء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُغْلَب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفًا، وإذا مات استرجع، فوالذي نفس محمد بيده، إن أحدكم ليبكي، فيستعبر إليه صويحبه، فيا عباد الله لا تعذّبوا موتاكم".
وهذا طرف من حديث طويل حسن الإسناد، أخرجه ابن أبي خيثمة، وابن أبي شيبة، والطبرانيّ، وغيرهم، وأخرج أبو داود، والترمذيّ أطرافًا منه، قال الطبريّ: ويؤيده ما قاله أبو هريرة: إن أعمال العباد تُعرَض على أقربائهم من موتاهم، ثم ساقه بإسناد صحيح إليه، وشاهده حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -، مرفوعًا، أخرجه البخاريّ في "تاريخه"، وصححه الحاكم، قال ابن المرابط: حديث قَيلة نصّ في المسألة، فلا يُعدَل عنه.
واعترضه ابن رُشد بأنه ليس نصًّا، وإنما هو مُحْتَمِل، فإن قوله:"فيستعبر إليه صويحبه" ليس نصًّا في أن المراد به الميت، بل يَحْتَمِل أن يراد به صاحبه الحيّ، وأن الميت يعذب حينئذ ببكاء الجماعة عليه.
قال الحافظ رحمه الله بعد ذكر هذه التوجيهات: وَيحْتَمِل أن يُجمَع بين التوجيهات، فينزّل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلًا: من كانت طريقته النوح، فمشى أهله على طريقته، أو بالغ بذلك عذّب بصنعه، ومن كان ظالمًا، فنُدب بأفعاله الجائرة عذّب بما نُدِب به، ومن كان يَعرِف من أهله النياحة، فأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضيًا بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راض عذّب بالتوبيخ، كيف أهمل النهي؟، ومن سَلِمَ من ذلك كله، واحتاط، فنهى أهله عن المعصية، ثم خالفوه، وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره، وإقدامهم على معصية ربهم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن هذا الجمع فيه تكلّف، بل الأولى الترجيح بين هذه التوجيهات، كما سيأتي قريبًا.