للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

بالبكاء، فلما لَمْ ينتهين أمره أن يسدّ أفواههنّ بذلك، وخصّ الأفواه بذلك؛ لأنَّها محلّ النَّوْح، بخلاف الأعين مثلًا. انتهى.

وَيحْتَمِل أن يكون كناية عن المبالغة في الزجر، أو المعنى: أعلمْهنّ أنهنّ خائبات من الأجر المترتّب على الصبر؛ لما أظهرن من الجزع، كما يقال للخائب: لَمْ يَحصُل في يده إلَّا التراب، لكن يُبعِد هذا الاحتمال قولُ عائشة - رضي الله عنهما - الآتي، وقيل: لَمْ يُرِد بالأمر حقيقته، قال عياض: هو بمعنى التعجيز؛ أي: إنهنّ لا يسكتن إلَّا بسدّ أفواههنّ، ولا يسدّها إلَّا أن تملأ بالتراب، فإن أمكنك فافعل.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الاحتمالات كلها ضعيفة، والصواب أن الحديث على ظاهره من حثو الترب في أفواههنّ على حقيقته؛ إذ لا دليل، ولا داعي إلى صرف الظاهر إلى غير ظاهره، فتبصّر، والله تعالى أعلم.

قال: ثم الظاهر أنه كان بكاؤهنّ زيادة على القدر المباح، فيكون النهي للتحريم بدليل أنه كرّره، وبالغ فيه، وأمر بعقوبتهنّ إن لَمْ يسكتن.

ويحتمل أن يكون مجرّدًا، والنهي للتنزيه، ولو كان للتحريم لأرسل غير الرجل المذكور لِمَنعِهنّ؛ لأنه لا يُقرّ على باطل، ويبعد تمادي الصحابيات بعد تكرار النهي على فعل الأمر المحرّم، وفائدة نهيهنّ عن الأمر المباح خشية أن يسترسلن فيه، فيفضي بهنّ إلى الأمر المحرّم؛ لضعف صبرهنّ، فَيُستفاد منه جواز النهي عن المباح عند خشية إفضائه إلى ما يحرّم، كذا في "الفتح" (١).

وقال النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ -: أمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك مبالغة في إنكار البكاء عليهنّ ومنعهنّ منه، ثم تأوله بعضهم على أنه كان بكاء بنوح وصياح، ولهذا تأكد النهيُ، ولو كان مجرد دمع العين لَمْ ينه عنه لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعله، وأخبر أنه ليس بحرام، وأنه رحمة، وتأوله بعضهم على أنه كان بكاءً من غير نياحة ولا صوت، قال: ويبعد أن الصحابيات يتمادين بعد تكرار نهيهنّ على محرم، وإنما كان بكاءً مجردًا، والنهي عنه تنزيه وأدبٌ، لا للتحريم، فلهذا أصررن عليه متأولاتٍ. انتهى (٢).


(١) "الفتح" ٤/ ٥٤ - ٥٥.
(٢) "شرح النوويّ" ٦/ ٢٣٦.