"لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنا لنكاد نَرْمُلُ بالجنازة رملًا"(١)؛ إذ مقاربة الرمل ليس بالسعي الشديد، كما قاله الحافظ العراقيّ رَحِمَهُ اللهُ، وسيأتي أقوال أهل العلم في الإسراع بالمشي في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.
(بِالْجَنَازَةِ) أي: بحملها، متعلق بـ "أسرعوا"، قال العلامة ابن الملقّن رَحِمَهُ اللهُ: من قال: الجنازة بالفتح للميت، وبالكسر للنعش، كما قدّمنا أول الباب يتعيّن عنده هنا قراءة قوله:"أسرعوا بالجنازة" بالفتح؛ لأن المقصود الإسراع بالميت، لا النعش، ويدلّ على ذلك آخر الحديث. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن المناسب هنا الكسر؛ لأن الجِنَازة بالكسر اسم للنعش، وعليه الميت، كما هو القول الراجح من أقوال أهل اللغة، والمقصود هنا الإسراع بالنعش، وعليه الميت؛ إذ لا معنى للإسراع بحمل الميت إلا مع النعش، فليتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: المراد بالإسراع هنا الإسراع بالميت، كما قلناه، فيتضمّن الأمر بحمله إلى قبره، وهو فرض كفاية. وقيل: المراد به الإسراع بتجهيزه بعد موته، لئلا يتغيّر، والأول أظهر، وعليه الجمهور.
قال النوويّ رَحِمَهُ اللهُ: والثاني باطل، مردود بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "فشرّ تضعونه عن رقابكم".
وقال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ: لا يبعد أن يكون كلّ واحد منهما مطلوبًا؛ إذ مقتضاه مطلق الإسراع، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقيّده بقيد.
وقال الفاكهيّ: ما ردّه النوويّ جمود على ظاهر لفظ الحديث، وإلا فيَحْتَمِل حمله على المعنى، فإنه قد يُعبّر بالحمل على الظهر، أو العنق عن المعاني، دون الذوات، فيقال: حمل فلان على ظهره، أو على عنقه ذنبًا، أو نحو ذلك، ليكون المعنى في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فشرّ تضعونه عن رقابكم": إنكم تستريحون من نظر من لا خير فيه، أو من مجالسته، ونحو ذلك، فلا يكون في الحديث دليل على ردّ قول هذا القائل، ويقوّي هذا الاحتمال أن كلّ حاضري
(١) هذا قاله لما رأى قومًا حاملين الجنازة يمشون متباطئين، فأنكر عليهم ذلك، وهو حديث صحيح، أخرجه النسائيّ، (١٩١٢)، راجع: شرحي على النسائيّ ١٩/ ٨٣ - ٨٦.