للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وأرجحُ من الجميع أن من قال ذلك لمن يَعْرِف منه الإسلام، ولم يَقُم له شبهة في زعمه أنه كافر، فإنه يَكْفُر بذلك، كما سيأتي تقريره، فمعنى الحديث: فقد رجع عليه تكفيره، فالراجع التكفير، لا الكفر، فكأنه كَفَّر نفسه؛ لكونه كَفَّرَ من هو مثله، ومن لا يُكَفِّره إلَّا كافر، يعتقد بُطلان دين الإسلام، ويؤيده أن في بعض طرقه: "وَجَبَ الكفر على أحدهما".

وقال القرطبيّ: حيث جاء الكفر في لسان الشرع، فهو جَحْد المعلوم من دين الإسلام بالضرورة الشرعية، وقد وَرَد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم، وترك شكر المنعم، والقيام بحقه، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يكفرن الإحسان، ويكفرن العشير"، متّفقٌ عليه، قال: وقوله: "باء بها أحدهما": أي رجع بإثمها، ولازم ذلك، وأصل الْبَوْء اللزوم، ومنه: "أبوء بنعمتك": أي أُلْزمها نفسي، وأُقرّ بها، قال: والهاء في قوله: "بها" راجع إلى التكفيرة الواحدة التي هي أقلّ ما يدلُّ عليها لفظ كافر، ويحتمل أن يعود إلى الكلمة.

والحاصل أن المقول له إن كان كافرًا كفرًا شرعيًّا، فقد صَدَق القائل، وذهب بها المقول له، وإن لَمْ يكن، رجعت للقائل مَعَرَّة ذلك القول وإثمه.

قال الحافظ: كذا اقتصر على هذا التأويل في "رَجَعَ"، وهو من أعدل الأجوبة، وقد أخرج أبو داود من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - بسند جيّد رفعه: "إنّ العبد إذا لَعَنَ شيئًا، صَعِدت اللعنة إلى السماء، فتُغلَق أبواب السماء دونها، ثم تَهْبط إلى الأرض، فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لَمْ تَجِد مَسَاغًا رجعت إلى الذي لُعِنَ، فإن كان أهلًا، وإلا رَجَعت إلى قائلها"، وله شاهد عند أحمد، من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - بسند حسن، وآخر عند أبي داود، والترمذيّ عن ابن عباس - صلى الله عليه وسلم -، ورواته ثقات، ولكنه أُعِلَّ بالإرسال. انتهى ما في "الفتح" (١).

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أرجح الأقوال هو ما قاله القرطبيّ، كما أشار إليه الحافظ.

وخلاصته أن رجوع الكفر إلى القائل إذا لَمْ يكن المقول له أهلًا لتلك الكلمة إنما هو رجوع معرّتها، وإثمها، لا رجوع نفس الكفر إليه بمعنى كونه يخرج بقوله


(١) "الفتح" ١٠/ ٤٨١.