وقال القرطبيّ رحمه الله: التجصيص، والتقصيص: هو البناء بالجصّ، وهو القصّ، والقَصّة، والْجَصّاص، والْقَصّاص واحد، فإذا خُلِط الجصّ بالرماد، فهو الْجَيّار، وذكر معنى ذلك أبو عبيد، وابن الأعرابيّ.
قال: وبظاهر هذا الحديث قال مالك، فكره البناء، والجصّ على القبور، وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه.
ووجه النهي عن البناء، والتجصيص في القبور أن ذلك مُباهاةٌ، واستعمالُ زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبّه بمن كان يُعظِّم القبور، ويعبدها، وباعتبار هذه المعاني، وبظاهر هذا النهي ينبغي أن يُقال: هو حرام، كما قال به بعض أهل العلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله (١).
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله حسنٌ جدًّا، وقد تقدّم هذا البحث مستوفًى في الباب الماضي، فلا تكن من الغافلين.
وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله: ذكر بعضهم أن الحكمة في النهي عن تجصيص القبور كون الجصّ أُحرق بالنار، وحينئذ، فلا بأس بالتطيين، كما نصّ عليه الشافعيّ.
قال السنديّ رحمه الله: التطيين لا يناسب ما ورد من تسوية القبور المرتفعة، كما سبق، وكذا لا يناسب قوله: "أن يُبنَى عليه"، والظاهر أن المراد النهي عن الارتفاع، والبناء مطلقًا، وإفراد التجصيص؛ لأنه أتمّ في إحكام البناء، فخُصّ بالنهي مبالغةً. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله السنديّ رحمه الله هو الحقّ، لا ما قاله العراقيّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ) ببناء الفعل للمفعول أيضًا؛ أي: نُهي عن الجلوس على القبر، قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل على تحريم القعود على القبر، والمراد بالقعود الجلوس عليه، وهذا مذهب الشافعيّ، وجمهور العلماء.
وقال مالك في "الموطأ": المراد بالقعود الحدث، قال النوويّ: وهذا تأويل ضعيف، أو باطل، والصواب أن المراد بالقعود الجلوس، ومما يوضّحه
(١) "المفهم" ٢/ ٦٢٦ - ٦٢٧.