وقد احتجّ بعض من تُعميه نفسه من المنتسبين إلى العلم في كراهية الصلاة على الجنائز في المسجد؟ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نَعَى للناس النجاشيّ، وخرج بهم إلى المصلى، فصفّهم، وكبّر أربع تكبيرات، قال: ولم يصلّ عليه في المسجد، وفي احتجاجه هذا ضروب من الإغفال.
[منها]: أنه لا يرى الصلاة على الغائب، وصلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- على النجاشيّ خصوص له عنده.
[ومنها]: أنه ليس في صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الجنازة في موضع، ولا صلاة العيد في موضع دليلٌ على أن صلاة العيد، وصلاة الجنائز لا تجوز إلا في ذلك الموضع، والمسلمون في كلّ أفق لهم مصلى في العيد، يخرجون إليه، ويُصلّون فيه، ولا يقول أحد من علمائهم: إن الصلاة لا تجوز إلا فيه. وكذلك صلاتهم في المقابر على جنائزهم، ليس فيه دليل على أنه لا يُصلّى على الجنائز إلا في المقبرة، وما لم يَنْهَ عنه الله سبحانه وتعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فمباح فعله، فكيف بما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. انتهى كلام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله ببعض تصرّف (١). وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيسٌ.
وقال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث دليل للشافعيّ، والأكثرين في جواز الصلاة على الميت في المسجد، وممن قال به أحمد، وإسحاق، قال ابن عبد البرّ: ورواه المدنيّون في "الموطأ" عن مالك، وبه قال ابن حبيب المالكيّ، وقال ابن أبي ذئب، وأبو حنيفة، ومالك في المشهور عنه: لا تصحّ الصلاة عليه في المسجد بحديث في "سنن أبي داود": "من صلى على جنازة في المسجد، فلا شيء له". ودليل الشافعيّ، والجمهور حديث سهيل ابن بيضاء. وأجابوا عن حديث "سنن أبي داود" بأجوبة:
[أحدها]: أنه ضعيف، لا يصحّ الاحتجاج به، قال أحمد بن حنبل: هذا حديث ضعيف، تفرّد به صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف.
[الثاني]: أن الذي في النسخ المشهورة المحقّقة المسموعة من "سنن أبي
(١) "الاستذكار" ٨/ ٢٧٢ - ٢٧٦، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز في المسجد.