فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويَجْمُلون منها الوَدَكَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وما ذاك؟ "، قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال:"إنما نهيتكم من أجل الدافّة التي دَفَّت، فكلوا، وادَّخِروا، وتصدقوا".
والدّافّة بتشديد الفاء: الجماعة التي تسير سيرًا ليّنًا، وسيأتي تمام ما يتعلّق به هناك -إن شاء الله تعالى-.
(وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ) فعيل بمعنى مفعول، يقال: نَبَذْته نَبْذًا، من باب ضرب: ألقيتُهُ، فهو منبوذ، وصبيّ منبوذ: مطروح، ومنه سمي النبيذ؛ لأنه يُنبَذ؛ أي: يُترك حتى يشتدّ. قاله في "المصباح".
والمعنى نهيتكم عن شرب النبيذ، في الظروف (إِلَّا) حالة كونه (فِي سِقَاءٍ)؛ أي: قِرْبَة، وفي رواية للنسائيّ:"وذكرت لكم أن لا تنتبذوا في الظروف: الدبّاء، والمزفّت، والنقير، والحنتم"(فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا) وفي رواية للنسائيّ: "في الأوعية كلها"، وهو بوزن "الأسقية" ومعناها، قال السنديّ رحمه اللهُ: أي الظروف، وإلا لا يصحّ المقابلة. انتهى. (وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا) وفي رواية للنسائيّ: "انتبذوا فيما رأيتم، واجتنبوا كلّ مسكر".
يعني أن الانتباذ في جميع الظروف جائز، وإنما المنهيّ عنه هو شرب المسكر.
وقوله:(قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ)؛ أي: محمد بن عبد الله بن نُمير شيخه الثاني (فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ) غرض المصنف رحمه اللهُ بهذا بيان أن المكنّى في رواية أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن المثنّى بـ "ابن بُريدة" هو عبد الله بن بُريدة، كما بيّنه ابن نمير في روايته، وليس سليمان بن بُريدة أخاه، كما يأتي في رواية علقمة بن مرثد.
والحاصل أن هذا الحديث مرويّ عن ابني بُريدة: عبد الله، وسليمان، كلاهما عن أبيهما، ولكن رواية محارب بن دثار، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه، وكذا رواية عطاء الخراسانىّ، وأما رواية علقمة بن مرثد، فعن سليمان، عن أبيه، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.