للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قال القرطبيّ -رحمه الله-: لا شكّ أن أهل البادية أهل جفاء وجهل غالبًا؛ ولذلك قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية [التوبة: ٩٧] ولذلك نَسَبُوا الظلم إلى مصدّقي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلى فضلاء أصحابه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان يَستعمل على ذلك إلا أعلم الناس، وأعدلهم؛ لكن لجهل الإعراب بحدود الله ظنّوا أن ذلك القدر الذي كانوا يأخذونه منهم هو ظلم، فقال لهم - صلى الله عليه وسلم -: "أرضوا مصدّقيكم، وإن ظُلِمتم" أي: على زعمكم وظنّكم، لا أنّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سوّغ للعمّال الظلم، وأمر الأعراب بالانقياد لذلك؛ لأنه كان يكون ذلك منه إقرارًا على منكرٍ، وإغراءً بالظلم، وذلك مُحالٌ قطعًا، وإنما سلك النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مع هؤلاء هذا الطريق، دون أن يبيّن لهم أن ذلك الذي أخذه المصدّقون ليس ظلماً؛ لأن هذا يحتاج إلى تطويل وتقريرٍ، وقد لا يَفهَم ذلك أكثرهم.

وأيضًا فَلْيَحصُل منهم الانقياد الكلّيّ بالتسليم، وترك الاعتراض الذي لا يحصل الإيمان إلا بعد حصوله، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)} [النساء: ٦٥]. انتهى كلام القرطبي -رحمه الله- (١)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

(قَالَ) جرير - رضي الله عنه - (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ") أي: ببذل الواجب، وملاطفتهم، وترك مُشاقّتهم، وسيأتي الحديث آخر "كتاب الزكاة" بعد حديث رقم (١٠٧٨) من طريق الشعبيّ، عن جرير - رضي الله عنه - بلفظ: "إذا آتاكم المصدِّق، فليَصُدر عنكم، وهو عنكم راضٍ".

قال النوويّ -رحمه الله-: المصدّق الساعي، ومقصود الحديث الوَصَاية بالسعَاة، وطاعةِ وُلاة الأمور، وملاطفتِهِم، وجمعُ كلمة المسلمين، وإصلاح ذات البين.

وهذا كلّه ما لم يطلب جَوْراً، فإذا طلب جَوراً، فلا موافقة له، ولا طاعة (٢)؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس - رضي الله عنه -: "فمن سئلها على وجهها، فليعطها، ومن سئل فوقها، فلا يُعْطِ"، رواه البخاريّ.


(١) "المفهم" ٣/ ١٣٣ - ١٣٤.
(٢) وقال النووي أيضًا (٧/ ٧٣): وهذا محمول على ظلم لا يفسق به الساعي؛ =