[والثالث]: أن يكون جملة استئنافيّةً، كأنه قيل: كيف يكون الرجوع كفّارًا؟ فقال: يضرب بعضكم رقاب بعض.
فعلى الأول يجوز أن يكون معناه: لا ترجعوا عن الدين بعدي، فتصيروا مرتدّين مقاتلين، يضرب بعضكم رقاب بعض بغير حقّ على وجه التحقيق، وأن يكون: لا ترجعوا كالكفّار المقاتل بعضكم بعضًا، على وجه التشبيه بحذف أداته.
وعلى الثاني يجوز أن يكون معناه: لا تَكْفُروا حال ضرب بعضكم رقاب بعض لأمر يَعرِض بينكم لاستحلال القتل بغير حقّ، وأن يكون: لا ترجعوا حال المقاتلة لذلك كالكفّار في الإنهماك في تهييج الشرّ، وإثارة الفتن بغير إشفاق منكم بعضكم على بعض في ضرب الرقاب.
وعلى الثالث: يجوز أن يكون معناه: لا يضرب بعضكم رقاب بعض بغير حقّ، فإنه فعل الكفّار، وأن يكون:"لا يضربُ بعضكم رقاب بعض"، كفعل الكفّار على ما تقدّم. وجوّز ابن مالك وأبو البقاء جزم الباء على أنه بدل من "لا ترجعوا"، وأن يكون جزاءً لشرط مقدّر على مذهب الكسائيّ: أي فإن رجعتم يضرب بعضكم رقاب بعض، وقيل: يجوز الجزم بأن يكون جوابَ النهي على مذهب من يُجوّز "لا تكفرْ، تدخلِ النار".
وقال القاضي عياض: رواه من لم يَضْبِط "يضرب" بالإسكان، وهو إحالة للمعنى، والصواب ضمّ الباء، نهاهم عن التشبّه بالكفّار، فتشبّهوا بهم في حالة قتل بعضهم بعضًا ومُحاربة بعضهم لبعضٍ، وهذا أولى ما يتأوّل عليه الحديث.
ويؤيّده ما رُوي (١) مما جَرَى بين الأنصار بمحاولة يهود، وتذكيرهم أيامهم، ودخولهم في الجاهليّة، حتى ثار بعضهم إلى بعض في السلاح، فنزلت:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} الآية [آل عمران: ١٠١]، أي تفعلون فعل الكفّار، أو نهاهم عن إظهار جحد ما أمرهم به، من تحريم
(١) ذكره ابن هشام في "سيرته" ٢/ ١٨٤، والحافظ في "الإصابة" ١/ ٨٨.