قال النوويّ رحمه الله في "شرح المهذّب": في "صحيح البخاريّ"، عن المقدام بن معد يكرب -رضي الله عنه-، عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، قال:"ما أكل أحد قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده". قال النوويّ: فالصواب ما نصّ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو عمل اليد، فإن كان زرّاعًا، فهوأطيب المكاسب، وأفضلها؛ لأنه عمل يده، ولأن فيه توكّلًا، كما ذكره الماورديّ؛ ولأن فيه نفعًا عامًّا للمسلمين، والدوابّ، وأنه لا بدّ في العادة أن يؤكل منه بغير عوض، فيحصل له أجره، وإن لم يكن ممن يعمل بيده، بل يعمل له غلمانه، وأجراؤه، فاكتسابه بالزراعة أفضل؛ لما ذكرناه.
وقال في "الروضة" -بعد ذكره الحديث المتقدّم-: فهذا صريحٌ في ترجيح الزراعة، والصناعة؛ لكونهما من عمل يده، ولكن الزراعة أفضلهما؛ لعموم النفع بها للآدميّ وغيره، وعموم الحاجة إليها، والله أعلم.
قال وليّ الدين رحمه الله: وغاية ما في حديث الباب تفضيل الاحتطاب على السؤال، وليمس فيه أنه أفضل المكاسب، فلعفه ذكره لتيسّره، ولا سيّما في بلاد الحجاز؛ لكثرة ذلك فيها. انتهى (١)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): حديث الباب يدلّ أيضًا على جواز الاكتساب بالمباحات، كالحطب، والحشيش النابتين في موات.
واستدلّ به المهلّب على جواز الاحتطاب، والاحتشاش من الأرض المملوكة، حتى يمنع من ذلك مالك الأرض، فترفع حينئذ الإباحة.
قال وليّ الدين: وهو مردود، فإن النبات في الأرض المملوكة ملك لمالكها، فلا يجوز التصرّف فيه بغير إذنه.
ثم حَكَى المهلّب عن ابن الموّاز أنه حَكَى عن ابن القاسم، عن مالك، قال: كانت له أرض يملكها، ليست بأرض خربة، فإن أراد أن يبيع ما ينبت فيها من المراعي بعد طيبهن أنه لا بأس به، وقال أشهب: لا يجوز ذلك؛ لأنه رزقٌ مِن رزقِ الله تعالى، ولا يحلّ لربّ الأرض أن يمنع منه أحدًا، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: