للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ترى كثيرًا من المتموِّلين فقير النفس، مجتهدًا في الزيادة، فهو لشدّة شَرَهِهِ، وشدّة حِرْصه على جمعه، كانه فقيرٌ، وأما غنى النفس، فهو من باب الرضا بقضاء الله؛ لعلمه أن ما عند الله لا ينفد، قاله في "العمدة" (١).

وقال النوويّ رحمهُ اللهُ: معنى الحديث: الغنى المحمود غنى النفس، وشِبَعُها، وقلّة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة؛ لأن من كان طالبًا للزيادة لم يستغن بما معه، فليس له غنى، وسبقه القاضي عياض رحمهُ اللهُ إلى ذلك، ثم حَكَى عن الإمام المازريّ أنه قال: يَحْتَمِل أن يريد الغنى النافع، والذي يَكُفّ عن الحاجة، وليس ذلك على ظاهره؛ لأنه معلوم أن كثير المال غنيّ. انتهى.

وحاصل هذا إثبات الغنى لغنيّ النفس، والمبالغة فيه، حتى ينفي الغنى عمن فقده، وإن كثر ماله، مع أنه غنيّ بالحقيقة، لكنه نُفِي لانتفاء ثمرته، فإنه وإن وجد الغنى بالمال مع الحرص، فهو غير محمود، ولا نافع، كما يُسَمَّى العالم الذي لا يعمل بعلمه جاهلًا؛ لانتفاء ثمرة العلم في حقه، والله أعلم (٢).

وقال في "الفتح" عند قوله: "إنما الغنى غنى النفس" ما نصّه: في رواية الأعرج، عن أبي هريرة، عند أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما: "إنما الغنى في النفس"، وأصله في مسلم، ولابن حبان من حديث أبي ذرّ -رضي الله عنه-: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذرّ أترى كثرة المال هو الغنى؟ " قلت: نعم، قال: "وترى قلة المال هو الفقر؟ " قلت: نعم يا رسول الله، قال: "إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب".

قال ابن بطال رحمهُ اللهُ: معنى الحديث: ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسّع الله عليه في المال، لا يقنع بما أُوتي، فهو يجتهد في الازدياد، ولا يبالي من أين يأتيه؟ فكأنه فقيرٌ؛ لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي، وقَنِعَ به، ورَضِي، ولم يَحْرِص على الازدياد، ولا ألح في الطلب، فكأنه غني.

وقال القرطبيّ رحمهُ اللهُ: معنى الحديث: إن الغِنَى النافعَ، أو العظيم، أو


(١) "عمدة القاري" ٢٣/ ٥٥.
(٢) "طرح التثريب" ٤/ ٨١.