هنا كفرَ الشرك، بقرينة مقابلته بالإيمان، ولأحمد من رواية نصر بن عاصم الليثيّ، عن معاوية الليثيّ، مرفوعًا:"يكون الناس مُجْدِبِين، فيُنْزِل الله عليهم رزقًا من السماء من رزقه، فيُصبحون مشركين، يقولون: مُطِرنا بنوء كذا".
ويحتمل أن يكون المراد به كفرَ النعمة، ويُرشد إليه روايةُ أبي هريرة الآتية بعدُ:"قال الله: ما أنعمت على عبادي من نعمة، إلا أصبح فريق منهم كافرين بها … "، وفي حديث ابن عباس الآتي بعده:"أصبح من الناس شاكر ومنهم كافرٌ … "، وفي رواية النسائيّ:"فأما من آمن بي وحمدني على سُقياي، فذلك الذي آمن بي وكفر بالكوكب"، ونحوه في رواية أبي عوانة والإسماعيليّ، وقال في آخره:"وكفر بي، أو قال: كَفَرَ نعمتي".
قال: وعلى الأول حمله كثير من أهل العلم، قال: وأعلى ما وقفت عليه من ذلك كلام الشافعي رحمه الله تعالى، قال في "الأمّ": من قال: "مُطِرنا بنوء كذا وكذا" على ما كان بعض أهل الشرك يَعنُون من إضافة المطر إلى أنه مطر نَوْء كذا، فذلك كُفْرٌ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النوء وقت، والوقت مخلوق، لا يَملك لنفسه ولا لغيره شيئًا، ومن قال: مُطِرنا بنوء كذا، على معنى مُطِرنا في وقت كذا، فلا يكون كُفْرًا، وغيره من الكلام أحبُّ إليّ منه - يعني حسمًا للمادّة - وعلى ذلك يُحْمَل إطلاق الحديث.
وحَكَى ابنُ قتيبة في "كتاب الأنواء": أن العرب كانت في ذلك على مذهبين، على نحو ما ذكره الشافعيّ، قال: ومعنى النوء سقوط نجم في المغرب من النجوم الثمانية والعشرين التي هي منازل القمر، قال: وهو مأخوذ من ناء: إذا سقط، وقال آخرون: بل النَّوْء طلوع نجم منها، وهو مأخوذ من ناء: إذا نَهَضَ، ولا تخالف بين القولين في الوقت؛ لأن كل نجم منها إذا طلع في المشرق وقع حال طلوعه آخر في المغرب، لا يزال ذلك مستمرًّا إلى أن تنتهي الثمانية والعشرون بانتهاء السنة، فإن لكل واحد منها ثلاثة عشر يومًا تقريبًا، قال: وكانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النَّوْء، إما بصُنْعه على زعمهم وإما بعلامته، فأبطل الشرع قولهم وجعله كُفْرًا، فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعًا في ذلك، فكفره كفرُ تشريك، وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة فليس بشرك، لكن يجوز إطلاق الكفر عليه، وإرادة كفر النعمة؛