لأن معناه قَدِّروا شعبان ثلاثين يومًا، ثم صوموا في الحادي والثلاثين، وقَدَرتُ الشيءَ، وقَدَّرته بتخفيف الدال وتشديدها، بمعنى واحد، بإجماع أهل اللغة، ومنه قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (٢٣)} [المرسلات: ٢٣].
ثم رَوَى الخطيب بإسناده، عن يحيى بن زكريا الفراء الإمام المشهور، فقال في قوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (٢٣)}: ذُكر عن عليّ، وأبي عبد الرحمن السُّلَميّ أنهما شَدَّدا، وخففها الأعمش، وعاصم، قال الفراء: ولا يبعد أن يكون معناهما واحدًا؛ لأن العرب قد تقول قُدِر عليه الموت، وقُدِّر عليه الموت، وقُدِر عليه رزقه، وقُدِّر عليه رزقه، بالتخفيف والتشديد، ثم رَوى الخطيب، عن ابن قتيبة التشديد والتخفيف، ثم عن ابن عباس، ومقاتل بن سليمان، وكان أوحد وقته في التفسير، ثم الفراء، ثم ثعلب، أنهم قالوا في تفسير قوله تعالى:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}[الأنبياء: ٨٧] معناه: أن لن نقدر عليه عقوبةً، قال: وكذلك قاله غيرهم من النحاة، فهذا قول أئمة اللغة على أن في الحديث ما لا يحتاج معه إلى غيره في وضوح الحجة، وإسقاط الشبهة، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فاقدروا له ثلاثين"؛ أي فعُدُّوا له ثلاثين، وهو بمعنى عُدُّوا، وكلّه راجع إلى معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".
قال الخطيب: قال المخالف: وليس في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فاقدروا له" ما يدل على وجوب تقدير شعبان بثلاثين؛ إذ ليس تقديره بثلاثين أولى من تقديره بتسعة وعشرين؛ لأن كل واحد من العددين يكون قدرًا للشهر؛ لقول -صلى الله عليه وسلم- حين نزل من الغرفة، وقد آلى شهرًا، فنزل لتسع وعشرين:"إن الشهر تسع وعشرون"، وعن ابن مسعود:"ما صمنا تسعًا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين".
قال الخطيب: ما أعظم غفلة هذا الرجل! ومَن الذي نازعه في أن الشهر تارة يكون تسعًا وعشرين، وتارة يكون ثلاثين، وأيُّ حجة له في ذلك؟ وقوله: ليس التقدير بثلاثين أولى من التقدير بتسع وعشرين باطلٌ ومحالٌ؛ لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- نص على تقديره في هذه الحالة بتمام العدد والكمال، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فاقدروا له ثلاثين"، قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[الأحزاب: ٣٦].