للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

يكون الفطر في السفر المباح بِرًّا؛ لأن الله أباحه، ونظير هذا من كلامه - صلى الله عليه وسلم - قوله: "ليس المسكين الطوّاف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان"، قيل: فمن المسكين؟ قال: "الذي لا يسأل، ولا يَجِد ما يُغنيه، ولا يُفْطَن له، فيتصدقَ عليه"، متّفقٌ عليه، ومعلوم أن الطوّاف مسكين، وأنه من أهل الصدقة؛ إذا لم يكن له شيء غير تطوافه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "رُدُّوا المسكين، ولو بظلف مُحْرَق"، وفي لفظ: "رُدُّوا السائل، ولو بظِلفٍ مُحْرَق" (١)، وقالت عائشة - رضي الله عنها -: إن المسكين ليقف على بابي … الحديث (٢)، وقال عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: ٦٠] الآية، وأجمعوا أن الطوّاف منهم، فعُلِم أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المسكين بالطوّاف عليكم"، معناه: ليس السائل بأشدّ الناس مسكنةً؛ لأن المتعفِّف الذي لا يسئل الناس، ولا يُفْطَن له أشدّ مسكنة منه، فكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس البر الصيام في السفر"، معناه: ليس البرّ كله في الصيام في السفر؛ لأن الفطر في السفر برٌ أيضًا لمن شاء أن يأخذ برخصة الله تعالى.

قال: وأما قوله: "ليس من البرّ" فهو كقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة: ١٧٧] و"من" قد تكون زائدةً، كقولهم: ما جاءني من أحد؛ أي ما جاءني أحد، والله أعلم.

قال: فأما من احتج بقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٤] الآية، وزعم أن ذلك عَزْمَةٌ فلا دليل معه على ذلك؛ لأن ظاهر الكلام، وسياقه إنما يدلّ على الرخصة والتخيير، والدليل على ذلك قوله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} الآية، ودليل آخر، وهو إجماعهم أن المريض إذا تحامل على نفسه فصام، وأتمّ يومه إن ذلك مجزئ عنه، فدلّ على أن ذلك رخصة له، والمسافر في التلاوة، وفي المعنى مثله، والكلام في هذا أوضح من أن يُحتاج فيه إلى إكثار، والله المستعان. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله (٣).


(١) حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ والنسائيّ، وغيرهما.
(٢) أخرجه أحمد، والترمذي بإسناد حسن، من حديث أم بجيد - رضي الله عنها -، ولم أره من حديث عائشة - رضي الله عنها -، فليُنظر.
(٣) "التمهيد" ٢/ ١٧٢.