وقد بُسِطَ الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، وبُيِّنَ أن ما يذكرونه من العقول، والنفوس، والمجردات، والمفارقات، والجواهر العقلية، لا يثبت لهم منه إلا نفس الإنسان، وما يقوم بها من العلوم وتوابعها، فإن أصل تسميتهم لهذه الأمور مفارقات هو مأخوذ من مفارقة النفس البدن بالموت، وهذا أمر صحيح، فإن نفس الميت تفارق بدنه بالموت، وهذا مبنيّ على أن النفس قائمة بنفسها، تبقى بعد فراق البدن بالموت مُنَعَّمةً أو مُعَذَّبةً، وهذا مذهب أهل الملل من المسلمين وغيرهم، وهو قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين، وإن كان كثير من أهل الكلام يزعمون أن النفس هي الحياة القائمة بالبدن، ويقول بعضهم: هي جزء من أجزاء البدن، كالريح المترَدِّدة في البدن أو البخار الخارج من القلب.
ففي الجملة النفس المفارقة للبدن بالموت ليست جزءًا من أجزاء البدن، ولا صفة من صفات البدن عند سلف الأمة وأئمتها، وإنما يقول هذا وهذا من يقوله من أهل الكلام المبتدَع المحدَث من أتباع الجهمية والمعتزلة ونحوهم، والفلاسفةُ المشاؤون يُقِرّون بأن النفس تبقى إذا فارقت البدن، لكن يَصفون النفس بصفات باطلة، فيَدَّعُون أنها إذا فارقت البدن كانت عقلًا، والعقل عندهم هو المجرد عن المادّة، وعلائقِ المادّة والمادّةُ عندهم هي الجسم، وقد يقولون: هو المجرد عن التعلق بالهيولى، والْهيُولَى في لغتهم هو بمعنى المحلّ، ويقولون: المادة والصورة، والعقلُ عندهم جوهر قائم بنفسه، لا يوصف بحركة ولا سكون، ولا تتجدد له أحوال البتة.
فحقيقة قولهم: إن النفس إذا فارقت البدن لا يتجدد لها حال من الأحوال، لا علوم، ولا تصورات، ولا سمع ولا بصر ولا إرادات، ولا فَرَخٌ وسرور، ولا غير ذلك مما قد يتجدد ويحدث، بل تبقى عندهم على حال واحدة أزلًا وأبدًا، كما يزعمونه في العقل والنفس، ثم منهم من يقول: إن النفوس واحدة بالعين، ومنهم من يقول: هي متعددة، وفي كلامهم من الباطل ما ليس هذا موضع بسطه، وإنما المقصود التنبيه على ما يناسب هذا الموضع، فهم يسمون ما اقترن بالمادّة التي هي الهيولى، وهي الجسم في هذا الموضع نفسًا كنفس الإنسان المدبرة لبدنه، ويزعمون أن للفلك نفسًا تحركه، كما للناس