للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

يَحتجّوا لما نصروه بحجج صحيحة في المعقول، فقصر هؤلاء المتكلمون في معرفة السمع والعقل، حتى قالوا: إن الله لم يزل لا يفعل شيئًا ولا يتكلم بمشيئته، ثم حَدَث ما حَدَث من غير تجدد سبب حادث، وزعموا دوام امتناع كون الرب متكلمًا بمشيئته فَعّالًا لما يشاء؛ لزعمهم امتناع دوام الحوادث، ثم صار أئمتهم كالجهم بن صفوان وأبي الْهُذيل العلاف إلى امتناع دوامها في المستقبل والماضي، فقال الجهم بفناء الجنة والنار، وقال أبو الهذيل بفناء حركاتهما، وأنهم يبقون دائمًا في سكون، ويزعم بعض من سلك هذه السبيل أن هذا مقتضى العقل، وأن كل ما له ابتداء، فيجب أن يكون له انتهاء.

ولما رأوا الشرع قد جاء بدوام نعيم أهل الجنة، كما قال تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: ٣٥]، وقال: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (٥٤)} [ص: ٥٤] ظنوا أنه يجب تصديق الشرع فيما خالف فيه أهل العقل، ولم يعلموا أن الحجة العقلية الصريحة لا تناقض الحجة الشرعية الصحيحة، بل يمتنع تعارض الحجج الصحيحة، سواء كانت عقلية أو سمعية أو سمعية وعقلية، بل إذا تعارضت حجتان دلّ على فساد إحداهما أو فسادهما جميعًا.

وصار كثير منهم إلى جواز دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي، وذكروا فروعًا عَرَف حُذّاقهم ضعفها، كما بُسط في غير هذا الموضع، وهو لزومهم أن يكون الربّ كان غير قادر، ثم صار قادرًا من غير تجدد سبب يوجب كونه قادرًا، وأنه لم يكن يمكنه أن يفعل ولا يتكلم بمشيئته، ثم صار الفعل ممكنًا له بدون سبب يوجب تجدد الإمكان، وإذا ذُكر لهم هذا، قالوا: كان في الأزل قادرًا على ما لم يزل، فقيل لهم: القادر لا يكون قادرًا مع كون المقدور ممتنعًا، بل القدرة على الممتنع ممتنعة، وإنما يكون قادرًا على ما يمكنه أن يفعله، فإذا كان لم يزل قادرًا فلم يزل يمكنه أن يفعل.

ولما كان أصل هؤلاء هذا صاروا في كلام الله على ثلاثة أقوال: فرقةٌ قالت: الكلام لا يقوم بذات الربّ، بل لا يكون كلامه إلا مخلوقًا، لأنه إما قديم وإما حادث، ويمتنع أن يكون قديمًا؛ لأنه متكلم بمشيئته وقدرته، والقديم لا يكون بالقدرة والمشيئة، وإذا كان الكلام بالقدرة والمشيئة كان مخلوقًا لا