يقوم بذاته، إذ لو قام بذاته كانت قد قامت به الحوادث، والحواث لا تقوم به؛ لأنها لو قامت به لم يَخْلُ منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، قالوا: إذ بهذا الأصل أثبتنا حدوث الأجسام، وبه ثبت حدوث العالم، قالوا: ومعلوم أن ما لم يَسبِق الحادث لم يكن قبله، إما معه، وإما بعده، وما كان مع الحادث أو بعده فهو حادث.
وكثير منهم لم يتفطن للفرق بين نوع الحوادث وبين الحادث المعين فإن الحادث المعين، والحوادث المحصورة يمتنع أن تكون أزلية دائمة، وما لم يكن قبلها فهو إما معها وإما بعدها، وما كان كذلك فهو حادث قطعًا، وهذا لا يخفى على أحد، ولكن موضع النظر والنزاع نوع الحوادث، وهو أنه هل يمكن أن يكون النوع دائمًا، فيكون الربّ لا يزال يتكلم، أو يفعل بمشيئته وقدرته، أم يمتنع ذلك؟ فلما تفطن لهذا الفرق طائفة، قالوا: وهذا أيضًا ممتنع؛ لامتناع حوادث لا أول لها، وذكروا على ذلك حُجَجًا، كحجة التطبيق، وحجة امتناع انقضاء ما لا نهاية له وأمثال ذلك، وقد ذُكِر عامة ما ذكر في هذا الباب وما يتعلق به في مواضع غير هذا الموضع، ولكل مقام مقال.
وأولئك المتفلسفة لما رأوا أن هذا القول مما يُعْلَم بطلانه بصريح العقل، وأنه يمتنع حدوث الحوادث بدون سبب حادث، ويمتنع كون الرب يصير فاعلًا بعد أن لم يكن، وأن المؤثر التام يمتنع تخلف أثره عنه، ظنوا أنهم إذا أبطلوا هذا القول، فقد سَلِمَ لهم ما ادّعوه من قدم العالم كالأفلاك وجنس المولدات وموادّ العناصر، وضلوا ضلالًا عظيمًا، خالفوا به صرائح العقول وكذّبوا به كلَّ رسول، فإن الرُّسُل مطبقون على أن كلَّ ما سوى الله محدَث مخلوق، كائن بعد أن لم يكن، ليس مع الله شيء قديم بقدمه، وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والعقول الصريحة تعلم أن الحوادث لا بدّ لها من مُحْدِث، فلو لم تكن إلا العلة القديمة الأزلية المستلزمة لمعلولها، لم يكن في العالم شيء من الحوادث، فإن حدوث ذلك الحادث عن علة قديمة أزلية مستلزمة لمعلولها ممتنع، فإنه إذا كان معلولها لازمًا لها كان قديمًا معها لم يتأخر عنها، فلا يكون لشيء من الحوادث سبب اقتضى حدوثه، فتكون الحوادث كلها حدثت بلا محدث، وهؤلاء فَرُّوا من أن يحدثها القادر بغير