وهذا التعليق وصله أبو نعيم في "المستخرج"، والبيهقيّ من طريقه، ولفظ البيهقيّ: قَدِم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ولا عهد لهم بالصيام، فكانوا يصومون ثلاثة أيام من كلّ شهر، حتى نزل:{شَهْرُ رَمَضَانَ}[البقرة: ١٨٥]، فاستكثروا ذلك، وشقّ عليهم، فكان من أطعم مسكينًا كلّ يوم ترك الصيام، ممن يُطيقه، ورخّص لهم في ذلك، ثم نسخه:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، فأُمروا بالصيام.
قال الحافظ رحمه الله: وإذا تقرّر أن الإفطار والإطعام كان رخصة، ثم نُسِخ لزم أن يصير الصيام حتمًا واجبًا، فكيف يلتئم مع قوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}، والخيريّة لا تدلّ على الوجوب، بل المشاركة في أصل الخير؟.
أجاب الكرمانيّ رحمه الله بأن المعنى: فالصوم خير من التطوّع بالفدية، والتطوّع بها كان سنّة، والخير من السنة لا يكون إلا واجبًا؛ أي لا يكون شيء خيرًا من السنّة إلا الواجب، كذا قال، ولا يخفى بُعده، وتكلّفه، ودعوى الوجوب في خصوص الصيام في هذه الآية ليست بظاهرة، بل هو واجب مخيّر، من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم، فنصّت الآية على أن الصوم أفضل، وكون بعض الواجب المخيّر أفضل من بعض لا إشكال فيه. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -: إن ذلك نسخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: ١٨٥]، هذا مقبول من قول الصحابيّ؛ لأنه أعلم بالمقال، وأقعد بالحال، كما إذا قال: أُمِرَ ونُهِي، ووجه النسخ في هذا واضح؛ وهو: أن آية الفدية تقتضي التخيير بين الفدية والصوم مطلقًا، كما قال سلمة، وهذه الآية الأخرى جاءت جازمة بالصوم لمن شهد الشهر، رافعة لذلك التخيير.
ومعنى: شهد الشهر؛ أي: حضر فيه مقيمًا في المصر، هذا قول جمهور العلماء، وعلى هذا يكون "الشهر" منصوبًا على الظرف، ويكون معناه عندهم: أن من دخل عليه الشهر وهو مسافر، أو طرأ عليه فيه سفر؛ لم يجب عليه صومه.
وروي عن عليّ، وابن عباس، وعبيدة السلماني: أن معنى {مَنْ شَهِدَ}: من حضر دخول الشهر، وكان مقيمًا في أوله فليكمل صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام؛ وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في السفر.