للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

المراد هنا الترتيب في الفعل، وكما قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} [الأنعام: ١٥١]، إلى قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: ١٥٤]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: ١١] الآية، ونظائر ذلك كثيرة، وأنشدوا فيه [من الخفيف]:

قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ … ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهُ

وذكر القاضي عياض رحمه الله تعالى في الجمع بينها وجهين:

[أحدهما]: نحو الأول من الوجهين اللذين حكيناهما، قال: قيل: اختَلَفَ الجواب؛ لاختلاف الأحوال، فأَعْلَمَ كُلَّ قوم بما بهم حاجة إليه، وترك ما لم تدع حاجتهم إليه، أو مما كان السائل علمه قبلُ، فأُعلِم بما تدعو الحاجة إليه، أو بما لم يُكَمّله بَعْدُ من دعائم الإسلام، ولا بَلَغَهُم عِلْمُه.

أوالثاني،: أنه قَدَّم الجهاد على الحج؛ لأنه كان أول الإسلام، ومحاربةِ أعدائه، والجدّ في إظهاره (١).

وذكر صاحب "التحرير" هذا الوجه الثاني، ووجهًا آخر أَنّ "ثم" لا تقتضي ترتيبًا، وهذا قول شاذّ عند أهل العربية والأصول، ثم قال صاحب "التحرير": والصحيح أنه محمول على الجهاد في وقت الزَّحْفِ الْمُلْجِئ، والنفير العام، فإنه حينئذ يحب الجهاد على الجميع، وإذا كان هكذا فالجهاد أولى بالتحريض، والتقديم من الحجّ؛ لما في الجهاد من المصلحة العامة للمسلمين، مع أنه مُتعيِّنٌ مُتَضَيّق في هذا الحال، بخلاف الحجّ، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى (٢).

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله تعالى: ظاهر هذا الحديث أن الجهاد أفضل من سائر الأعمال بعد الإيمان، وظاهر حديث أبي ذرّ - رضي الله عنه - أن الجهاد مُساو للإيمان في الفضل، وظاهر حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - يخالفهما؛ لأنه أخّر الجهاد عن الصلاة، وعن برّ الوالدين، وليس هذا بتناقض؛ لأنه إنما اختلفت أجوبته لاختلاف أحوال السائلين، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُجيب كلّ سائل بالأفضل


(١) راجع: "إكمال المعلم" ١/ ٤٠١.
(٢) "شرح مسلم" ٢/ ٧٧ - ٧٨.