فاختلف العلماء في تأويل هذه الألفاظ المختلفة المضطربة؛ فمنهم من رجّح الروايات التي فيها: أنها أهلَّت بالحج، وغَلَّط من روى: أنها أهلَّت بعمرة، وإليه ذهب إسماعيل القاضي (١).
ومنهم من ذهب مذهب الجمع بين هذه الرّوايات، وهو الأولى؛ إذ الرواة لتلك الألفاظ المختلفة أئمة ثقات مشاهير، ولا سبيل إلى إطلاق لفظ الغلط على بعضهم بالوهم، فالجمع أولى من الترجيح إذا أمكن.
فمما ذُكِر في ذلك: أنها كانت أحرمت بالحج ولم تسق الهدي، فلما أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من لم يسق الهدي بفسخ الحج إلى العمرة، فسخت فيمن فسخ، وجعلته عمرة، وأهلَّت بها، وهي التي حاضت فيها، ثم إنها لم تحلّ منها حتى حاضت، فأمرها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن تحرم بالحج، وتكون حينئذ مُردفة، فأحرمت بالحج، ووقفت بعرفة وهي حائض، ثم إنها طهرت يوم النحر، فأفاضت، فلما كملت مناسك حجها اعتمرت عمرة أخرى مع أخيها من التنعيم.
قال: فعن تلك العمرة التي دخلت فيها بعد الفسخ عبَّر بعض الرواة: بأنها أحرمت بعمرة، وعلى ذلك يُحْمَل قولها: أهللت بعمرة؛ تعني بعد فسخها الحج، فلما كان منها الأمران صدق كل قول من أقوالها، وكل راو روى شيئًا من تلك الألفاظ.
قال القرطبيّ رحمه الله: وَيَعتضد هذا التأويل بقولها في بعض رواياته: فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن ساق الهدي أن يحل، قالت: فحلّ من لم يسق الهدي، ونساؤه لم يسقن الهدي؛ فأحللن، وهذا فيما يبدو تأويل حسن، غير أنه يبعده مساق قولها أيضًا في رواية أخرى قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:"من أراد أن يهل بحج وعمرة فليهلّ، ومن أراد أن يهلّ بحج فليفعل، ومن أراد أن يهلّ بعمرة فليفعل"؛ قالت: فأهلّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج، وكنت فيمن أهلّ بعمرة، وظاهره: الإخبار عن مبدأ الإحرام للكل.
وعلى هذا فيمكن التأويل على وجه آخر؛ وهو أن يبقى هذا الحديث على
(١) وقع في كلام القرطبيّ: وأظنه ابن عليّة، وهو ظنٌّ غير صحيح، بل هو إسماعيل القاضي، كما صرّح به القاضي عياض في كلامه السابق، فتنبّه.