لكن طريق الجمع بين مختلف الأحاديث تقتضي ما قررناه، وقد ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عن نسائه بالبقر، كما تقدم، وروى مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى عنها، فيُحْمَل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى عنها من غير أن يأمرها بذلك، ولا أعلمها به.
وقال القرطبي - رَحِمَهُ اللهُ -: قولها: "ولم يكن في ذلك هدي، ولا صدقة، ولا صوم" هذا الكلام مشكل على من يقول: إنها كانت معتمرة، أو قارنة؛ لأنها إن كانت معتمرة فقد استباحت مشط رأسها، وإلقاء القمل؛ إن تنزلنا على تأويل من قال: إنها كان بها أذى، وإنها رُخِّص لها كما رُخِّص لكعب بن عجرة، فكانت تلزم الفدية كما نصَّ الله على ذلك، وأما إن كانت قارنة فيلزمها الهدي للقران عند جماعة العلماء إلا داود فإنه لا يرى في القران هديًا.
وقد أشكل هذا على أصحابنا حتى قال القاضي أبو الفضل عياض: لم تكن معتمرة ولا قارنة، وإنما كانت أحرمت بالحج، ثم نوت فسخه في عمرة، فلما حاضت ولم يتم لها ذلك رجعت إلى حجها، فلما أكملت حجها اعتمرت عمرة مبتدأة، فلم تكن متمتعة، فلم يجب عليها هدي.
قال القرطبي - رَحِمَهُ اللهُ -: وكأن القاضي - رَحِمَهُ اللهُ - لم يسمع قولها:"وكنت فيمن أهلّ بعمرة"، وقولها:"ولم أهلّ إلا بعمرة"، ولا قوله - صلى الله عليه وسلم - لها:"يسعك طوافك لحجك وعمرتك".
قال: وهذا الكلام المشكل يهوّن إشكاله: أنه قد رواه وكيع موقوفًا على هشام بن عروة وأبيه، فقال: قال عروة: إنه قضى الله حجها وعمرتها، قال هشام: ولم يكن في ذلك هدي، ولا صيام، ولا صدقة، وإذا كان الأمر كذلك سهل الانفصال؛ بأن يقال: إن عروة وهشامًا لمّا لم يبلغهما في ذلك شيء أخبرا عن نفي ذلك في علمهما، ولا يلزم من ذلك انتفاء ذلك الأمر في نفسه، فلعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أهدى عنها، ولم يبلغهما ذلك، وهذا التأويل أيضًا منقدح على تقدير: أن يكون هذا الكلام من قول عائشة - رضي الله عنها -، ويؤيده قول جابر: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أهدى عن عائشة بقرة على ما يأتي - إن شاء الله تعالى -. ويَحْتَمِل أن يكون معنى قولهم:"لم يكن في ذلك هدي، ولا صوم، ولا صدقة" أي: لم يأمرها بذلك، ولم يكلّفها شيئًا من ذلك؛ لأنه نوى أن يقوم به عنها، كما قد