للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

تحقيقًا نفيسًا مكمّلًا لما سبق، فأحببت إيراده، وإن كان فيه طولٌ؛ لأن الكتاب إنما وُضع لاستيفاء البحوث العلميّة بقدر المستطاع، حتى لا يحتاج الطالب إلى غيره، بل يأخذ كفايته منه - إن شاء الله تعالى -.

قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: قد اختلفت الأحاديث في فضائل الأعمال، وتقديم بعضها على بعض، والذي قيل في هذا: إنها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص، أو من هو مثل حاله، أو هي مخصوصة ببعض الأحوال التي ترشد القرائن إلى أنَّها المراد.

ومثال ذلك أن يُحمل ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - من قوله: "إلا أُخبركم بأفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم؟ " (١)، وفسّره بذكر الله تعالى، على أن يكون ذلك أفضل الأعمال بالنسبة إلى المخاطبين بذلك، أو من هو مثل حالهم، أو من هو في صفاتهم، ولو خوطب بذلك الشجاع الباسل المتأهّل للنفع الأكبر في القتال لقيل له: الجهاد، ولو خوطب به من لا يقوم مقامه في القتال، ولا يتمحّض حاله لصلاحية التبتّل لذكر الله تعالى، وكان غنيًّا يُنْتَفَعُ بصدقة ماله لقيل له: الصدقة، وهكذا في بقيّة أحوال الناس، قد يكون الأفضل في حقّ هذا مخالفًا للأفضل في حقّ ذاك، بحسب ترجيح المصلحة التي تليق به.

وأما برّ الوالدين، فقد قُدّم في هذا الحديث على الجهاد، وهو دليلٌ على تعظيمه، ولا شكّ في أن أذاهما بغير ما يجب ممنوع منه، وأما ما يجب من البرّ في غير هذا ففي ضبطه إشكالٌ كبير (٢).


(١) حديث صحيح أخرجه الترمذيّ، وصححه، وابن ماجة، والحاكم من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -، راجع: "صحيح الترمذيّ" للشيخ الألبانيّ - رَحِمَهُ اللهُ - تعالى ٣/ ١٣٩.
(٢) قال الصنعانيّ - رَحِمَهُ اللهُ - تعالى: قوله: "ففي ضبطه إشكال كبير" أقول: وذلك أن البرّ هو الإحسان، ودرجات الإحسان متفاوتة، والواجب منها للوالدين غير منضبط.
وقد ضبط ابن عطيّة الدرجات المتفاوتات في المباحات فِعلًا وتركًا، واستحبابها في المندوبات، وفروض الكفايات كذلك، ومنه تقديمها عند تعارض الأمرين، وهو كمن دعته أمّه ليمرّضها مثلًا بحيث يفوت عليه فعل واجب إن استمرّ عندها، ويفوت ما قصد به من تأنيسه لها، وغير ذلك لو تركها وفعله، وكان مما يمكن تداركه مع فوات الفضيلة، كالصلاة أول وقتها، وفي جماعة. انتهى كلامه. =