للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقد اختَلَف فيه قولُ عائشة -رضي الله عنها-، واختلف الرواة عنها في ذلك، ففي بعض الروايات عنها: أن أهل المدينة كان من أهلّ منهم لِمَناة؛ لم يطف بينهما، وكأن هؤلاء بَقُوا بعد الإسلام على ذلك الامتناع حتى أُنزلت الآية، وفي بعضها: أن مَن أَهَلّ لإساف ونائلة جاء فطاف بينهما، وكان هؤلاء لمّا انقطع الإهلال لإساف ونائلة بالإسلام خافوا ألا يكون مشروعًا لمن لم يهلّ لهما، فرفع الله تلك التوهمات كلها بقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ}، وقد ذكر أبو بكر بن عبد الرحمن عند سماعه قول عائشة ما يدل على سببين آخرين، نَصّ عليهما في متن الحديث، ويرتفع الإشكال، ويصح الجمع بين هذه الروايات المختلفة بالطريق الذي سلكه أبو بكر بن عبد الرحمن؛ حيث قال: فأُرَاها نزلت في هؤلاء وهؤلاء، فنقول: نزلت الآية جوابًا لجميع هؤلاء الذين ذُكرت أسبابهم، ورافعة للحرج عنهم، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمهُ اللهُ (١).

(فَقَالَتْ) عائشة -رضي الله عنها- (مَا) نافية (أَتَمَّ اللهُ حَجَّ امْرِئٍ، وَلَا عُمْرَتَهُ) وقوله: (لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ" امرئٍ" (وَلَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ) من عدم الوجوب (لَكَانَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أي لكان لفظ نصّ الآية المقتضي لذلك فلا جناح إلخ، فقولها: "فلا جناح إلخ" خبر "كان"، واسمها ضمير يعود إلى المفهوم، أي لكان نصّ الآية إلخ، ويَحْتَمِل أن يكون "فلا جناح إلخ" اسمها، وخبرها محذوف، أي نصَّ الآية، أو هو النازلَ.

قال النوويّ رحمهُ اللهُ: قال العلماء: هذا من دقيق علم عائشة -رضي الله عنها-، وفهمها الثاقب، وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ؛ لأن الآية الكريمة إنما دلّ لفظها على رفع الجناح عمن يطوف بهما، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي، ولا على وجوبه، فأخبرته عائشة -رضي الله عنها- أن الآية ليست فيها دلالة للوجوب، ولا لعدمه، وبَيَّنَت السبب في نزولها، والحكمة في نظمها، وأنها نزلت في الأنصار حين تحرَّجوا من السعي بين الصفا والمروة في الإسلام، وأنها لو كانت كما يقول عروة، لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، وقد يكون الفعل واجبًا، ويعتقد إنسان أنه يُمنع إيقاعه على صفة مخصوصة، وذلك كمن عليه


(١) "المفهم" ٣/ ٣٨٣، ٣٨٤.