[الثاني]: أن النصارى كانوا يقفون بمحسِّر، فَأوْضَعَ فيه النبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ مخالفةً لهم، وكأنّ هذا مأخوذ مِمّا رُوِيَ أن عمر -رضي الله عنه- قال، وهو يوضِعُ:
إليك تعدو قلقًا وضينها … معتَرِضًا في بطنها جنينُها
مخالِفًا دينَ النصارى دينُها
ولا يَخْفَى أنّ هذا لا يدل على أنّ النصارى كانوا يقفون بمحسر، ويكفي في معنى البيت مخالَفَة النّصارى في شركهم، وعدم حجّهم، وأيضًا فلو ثَبَتَ أنهم كانوا يقفون به فالمخالفة تحصل بعدم الوقوف، فلا تقتضِي الإسراع.
[الثالث]: أنّ المشركين كانوا يقفون به يتفاخرون بآبائهم، وكأنّ هذا مبنيٌّ على الذي قَبْلَه، ولكن لما كانت دعوى وقوف النّصارى لا سَنَدَ لها أبدلوا بالمشركين؛ لأنّه قد رُوِيَ ما يشْبِهُ ذلك في تفسير قوله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}[البقرة: ٢٠٠] ويردُّه أنّه إذا كانت الآيَةُ تُشِيرُ إلى ذلك، فإنّها تشير إلى أنّ ذلك كان عند قضاء المناسك، وأكثَر الروايات توافق ذلك، وأنّهم كانوا يتفاخرون بمني، وفي بعضها: عند الْجَمْرَة، وفي بعضها: يوم النحر، وليس في الروايات ذِكرٌ لمحسِّر، وأيضًا فمُخَالفتهم في ذلك لا تَقْتَضِي الإسراع.
[الرابع]: وهو المشهور: أن وادي محسِّر موضع نزل به عذاب، قال ابن القيّم في "الْهَدْي": "فلمّا أتى بطنَ محسّر حرَّكَ ناقَتَهُ وأَسْرَعَ السَّيْرَ، وهذه كانت عادته في المواضع التي نزل فيها بَأْسُ اللهِ بأعدائه، فإن هنالك أَصَابَ أَصْحَابَ الفيل ما قَصَّ اللهُ علينا، ولذلك سُمّيَ ذلك الوادي واديَ محسّر؛ لأن الفِيلَ حَسَرَ فيه: أَيْ أَعْيَا، وانقطع مِنَ الذّهاب، وكذلك فعل في سلوكه الحِجْرَ، وديارَ ثمود، فإِنّه تَقَنَّعَ بثَوبه، وأسرع السير، ومحسر برزخ … "، وسيأتي بقيّةُ عبارته.
وهذا القولُ مَقْبولٌ، وشاهِدُهُ، وهو الإسراعُ في أرض ثَمود مَنْقُول،
= رواه مسلم، وغيره، فدلّ على أن خروجهم كراهة للوادي حيث حضر الشيطان فيه، وأما مبيتهم فيه، فلم يعلموا بحضور الشيطان فيه، ولم يتبيّن لهم ذلك إلا بعد فوات الصبح، فتأمله بالإمعان.