قال القاضي عياض -رَحِمَهُ اللهُ-: جمع بعضهم بين هذه الروايات بأنه موقف واحد، على أن معنى "خَطَبَ" أي عَلَّم الناس، لا أنها من خطب الحج المشروعة، قال: ويَحْتَمِل أن يكون ذلك في موطنين: أحدهما على راحلته عند الجمرة، ولم يقل في هذا:"خَطَبَ"، وإنما فيه:"وقف"، و"سئل"، والثاني يوم النحر بعد صلاة الظهر، وذلك وقت الخطبة المشروعة من خُطَب الحج، يُعَلِّم الإمامُ الناسَ ما بقي عليهم من مناسكهم.
قال النوويّ -رَحِمَهُ اللهُ-: هذا الاحتمال الثاني هو الصواب.
وقال الحافظ -رَحِمَهُ اللهُ-: فإن قيل: لا منافاة بين هذا الذي صوَّبه وبين الذي قبله، فإنه ليس في شيء من طريق الحديثين حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- الآتي بعد ذلك، وحديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- بيان الوقت الذي خطب فيه من النهار.
قلت: نعم لم يقع التصريح بذلك، لكن في رواية ابن عباس -رضي الله عنهما- عند البخاريّ: إن بعض السائلين قال: رميت بعدما أمسيت، وهذا يدلّ على أن هذه القصة كانت بعد الزوال؛ لأن المساء يُطلَق على ما بعد الزوال، وكأن السائل عَلِمَ أن السنة للحاج أن يرمي الجمرة أول ما يَقْدَم ضحى، فلما أخّرها إلى بعد الزوال سأل عن ذلك، على أن حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- من مخرج واحد لا يُعْرَف له طريق إلا طريق الزهريّ، عن عيسى عنه، والاختلاف من أصحاب الزهريّ، وغايته أن بعضهم ذَكَرَ ما لم يذكر الآخر، واجتمع من مرويِّهم، ورواية ابن عباس أن ذلك كان يوم النحر بعد الزوال، وهو على راحلته يخطب عند الجمرة.
وإذا تقرر أن ذلك كان بعد الزوال يوم النحر تعيّن أنها الخطبة التي شُرِعت لتعليم بقية المناسك، فليس قوله:"خَطَبَ" مجازًا عن مجرد التعليم، بل حقيقة.
ولا يلزم من وقوفه عند الجمرة أن يكون حينئذ رماها، ففي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عند البخاريّ في آخر "باب الخطبة أيام منى": أنه -صلى الله عليه وسلم- وقف يوم النحر بين الجمرات، فذكر خطبته، فلعل ذلك وقع بعد أن أفاض، ورجع إلى منى. انتهى.