عباس ذلك ترغيبًا للسامع في الاعتناء بخبره، وحَثًّا له على الاستماع له، وأنه
عِلْمٌ مُحَقَّقٌ، والله تعالى أعلم.
(بَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِسِتَّ عَشْرَةَ بَدَنَةً) اختَلَفت الروايات في مقدار البُدن التي بعث بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ففي هذه الرواية أنها ست عشرة بدنة، وفي الرواية التالية:"بثمانَ عشرة بدنةً"، ويمكن الجمع بتعدد القصة، أو يصار إلى ترجيح الرواية المشتملة على الزيادة، إن كانت القصة واحدةً، قاله الشوكانيّ رحمه اللهُ، وقال النوويّ رحمه اللهُ: يجوز أنهما قضيتان، ويجوز أن تكون قضية واحدة، والمراد ثمان عشرة، وليس في قوله:"ست عشرة" نفي الزيادة؛ لأنه مفهوم عدد، ولا عمل عليه، والله أعلم. انتهى.
وأسند الواقديّ في أول غزوة الحديبية القصة بطولها، وفيها أنه -صلى الله عليه وسلم- استَعْمَل على هديه ناجية بن جندب الأسلميّ، وأمره أن يتقدمه بها، وقال: كان سبعين بدنة، قال القاري رحمه اللهُ: نَقْلُ الواقديّ مخالف لرواية مسلم، اللهم إلا أن يقال: العدد المذكور في رواية مسلم مختصّ بخدمة ناجية له، والباقي لغيره من رفقائه، كما يدل عليه قوله: وأمّره فيها.
(مَعَ رَجُلٍ) قيل: هو ناجية الْخُزاعيّ، وقيل: أبو قبيصة ذؤيب، كما سيأتي في الرواية الثالثة، وهذا فيه نظر؛ لأن حديث أبي قبيصة يرويه ابن عبّاس عنه، وهذا الحديث من مسند ابن عبّاس نفسه، فتأمّل (وَأمّرَهُ فِيهَا) بتشديد الميم: أي جعله أميرًا (فيها) أي لينحرها بمكة (قَالَ) الراوي، وهو ابن عبّاس -رضي الله عنهما- (فَمَضَى) أي ذهب الرجل منطلقًا إلى مكة (ثُمَّ رَجَعَ) ليستفسر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فيما يصنعه إن حدث في البدن شيء (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ أَصْنَعُ بِمَا أُبْدِع عَلَىَّ) -بضم الهمزة، وإسكان الباء، وكسر الدال، مبنيًّا للمفعول: أي بما حُبِس عليّ من الْكَلال (مِنْهَا؟) أي من تلك البُدن، يقال: أبدعَتِ الراحلةُ: إذا كَلّت، وأَعْيت، حتى وَقَفت من الإعياء، وأُبْدِع بالرجل على بناء المجهول: إذا انقَطَعت راحلته به لكلال، ولم يقل هنا: أُبْدِع بي؛ لأنه لم يكن هو راكبًا؛ لأنها كانت بدنة يسوقها، بل قال:"أُبْدِع عليّ"؛ لتضمين معنى الحبس، كما ذكرنا (١). (قَالَ: