وقد يريد دنوّ الملائكة إلى الأرض، أو إلى السماء بما ينزل معهم من الرحمة، ومباهاة الملائكة بهم عن أمره سبحانه وتعالى. انتهى ما ذكره النوويّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكروه من تأويل هذا الحديث غير صحيح، والصواب إثبات صفة الدنوّ لله -سبحانه وتعالى- حقيقة، على ما يليق بجلاله، وإنما أدّاهم إلى هذا التأويل السخيف قياسهم الغائب بالشاهد، فظنوا أنهم لو أثبتوا ذلك له لزم تشبيهه بخلقه، وهذا زعم باطل، فالله -سبحانه وتعالى- له الصفات العلى، لا تشبه الصفات، كما أن له ذات لا تشبه الذوات، فالمخلوق له ذاته، وصفاته الخاصّة به، والخالق له ذاته، وصفاته اللائقة بجلاله، ولا يلزم من هذا الإثبات تشبيه أصلًا، وقد ذكرنا غير مرّة أن مذهب السلف قاطبة في مثل هذا الحديث أن يؤمنوا به كما جاء، ويفوّضون الكيفية إلى الله تعالى، فيؤمنون بأن لله تعالى دنوًّا حقيقيًّا، على ما يليق بجلاله، وكذلك له نزول كل ليلة إلى السماء الدنيا، وأن له استواءً على العرش كما يليق به، وغير ذلك مما أثبته -سبحانه وتعالى- لنفسه من الصفات، أو أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما صحّ عنه من الروايات، وأن الدنوّ، والنزول، والاستواء معان معلومة لكلّ من يعرف كلام العرب، فهي ثابتة له تعالى، وإنما المجهول كيفيتها.
فالحقّ أن الله -سبحانه وتعالى- له الدنوّ، والنزول، والاستواء، وغيرها من الصفات الثابتة له حقيقةً، لا مجازًا، على كيفية يعلمها هو، لا نعلمها، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ) أي: يفاخرهم بهم، وقال القرطبيّ: أي يُثني عليهم عندهم، ويعظّمهم بحضرتهم، كما في الحديث الآخر:"يقول للملائكة: انظروا إلى عبادي جاءوني شُعْثًا غُبْرًا، أُشهدكم أني قد غفرت لهم"، قال: وكأن هذا -والله أعلم- تذكير للملائكة بقولهم:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}[البقرة: ٣٠] وإظهار لتحقيق قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: ٣٠]. انتهى كلام القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ- (١).