للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

لأن تحريم مكة قديم، حرّمها اللَّه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يوم خلق السماوات والأرض، فإسناد التحريم إلى إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلَام- مجاز، كما مرّ تحقيقه (فَجَعَلَهَا حَرَمًا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ) قال التوربشتيّ: أراد بذلك تحريم التعظيم، دون ما عداه من الإحكام المتعلّقة بالحرم، ومن الدليل عليه قوله في هذا الحديث: "لا يُخبط شجرها إلَّا لعلف"، وأشجار حرم مكة لا يجوز خبطها بحال، وصيدها، وإن رأى تحريمه نفر يسير من الصحابة، فإن الجمهور منهم لم يُنكروا اصطياد الطيور بالمدينة، ولم يبلغنا فيه عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نهي من طريق يُعتمد عليه، وقد قال لأبي عُمير: "ما فَعَلَ النُّغير؟ "، ولو كان حرامًا لَمْ يسكت عنه في موضع الحاجة. انتهى (١).

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله التوربشتيّ قد تقدّم لك أن الصحيح خلافه، وأن المدينة حرم يحرم صيدها، وقطع شجرها إلَّا ما استُثني في هذا الحديث، ومن الغريب قوله: "ولم يبلغنا عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نهي من طريق يُعتمد عليه"، فهل بعد ما تقدّم في "صحيح مسلم" من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي أحرّم ما بين لابتي المدينة أن يُقطع عِضاهها، أو يُقتل صيدها" يريد أصحّ من هذا؟ أو نسيه، أو تغافل عنه، وهو مذكور في الكتاب الذي شرحه، وهو "مشكاة المصابيح"، إن هذا لشيء عجيب!!!.

وقوله: (حَرَامًا)؛ أي: حرّمتُ المدينة، فحَرُمت حرامًا، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧)} [نوح: ١٧]، وقوله: (مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا) بدل من "المدينة"، ويَحْتَمِل أن يكون "حرامًا" مفعولًا لفعل محذوف؛ أي: جعلت حرامًا ما بين مأزميها، فـ "ما بين مأزميها" مفعول ثان، و"المأزم" بهمزة بعد الميم، وبكسر الزاي، هو الجبل، وقيل: المضيق بين الجبلين ونحوه، والأول هو الصواب هنا، ومعناه: ما بين الجبلين، كما سبق في حديث أنس -رضي اللَّه عنه- وغيره، قاله النوويّ (٢).

وقوله: (أَنْ لَا يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ) قال الطيبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وقع موقع التفسير لِما


(١) راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" ٦/ ٢٠٥٥.
(٢) "شرح النوويّ" ٩/ ١٤٧.