قال ابن عبد البر: تأويل ابن نافع بعيد عند أهل المعرفة باللسان، قال: ويلزمه أن يقول: إن الصلاة في مسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بتسعمائة ضعف وتسعة وتسعين ضعفًا، وإذا كان هكذا لم يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلا بالجزء اللطيف على تأويل ابن نافع، وحسبك ضعفًا بقولٍ يؤول إلى هذا.
وقال ابن بطال: مثّل بعض العلماء بلسان العرب الاستثناء في هذا الحديث بمثال بَيِّن فيه معناه، فإذا قلت: اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجة، إلا العراق جاز أن يكون العراق مساويًا لليمن، وجاز أن يكون فاضلًا، وأن يكون مفضولًا، فإن كان مساويًا فقد عُلم فضله، وإن كان فاضلًا أو مفضولًا لم يُعلم مقدار المفاضلة بينهما، إلا بدليل على عدة درجات، إما زائدة على ذلك، أو ناقصة عنه.
قال وليّ الدين العراقيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: هذا كلام فيه إنصاف، بخلاف كلام ابن نافع، وقد قام الدليل على أن المسجد الحرام فاضل بمائة درجة، وقد سبق ذلك، فوجب الرجوع إليه.
ثم قال ابن عبد البرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا: أن الصلاة في مسجد النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بمائة صلاة، ومن غيره بألف صلاة، قال: واحتَجَّ لذلك بما رواه سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، عن سليمان بن عتيق، قال: سمعت ابن الزبير، قال: سمعت عمر بن الخطاب، يقول:"صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه".
قال: وتأول بعضهم هذا الحديث أيضًا عن عمر على أن الصلاة في مسجد النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خير من تسعمائة صلاة في المسجد الحرام، قال: وهذا كله تأويل لا يعضده دليل، وحديث سليمان بن عتيق هذا لا حجة فيه؛ لأنه مختلف في إسناده، وفي لفظه، وقد خالف فيه من هو أثبت منه، فمن الاختلاف أنه روي عنه، عن ابن الزبير، عن عمر بلفظ:"صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة في مسجد النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-"، وبلفظ:"صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنما فضله عليه بمائة صلاة".