وكذلك رواه أبو بردة، عن أبي موسى، ومحمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فدلّ على أن المراد بالبكر اليتيمة.
قال الحافظ: وهذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ بلفظ الأب، ولو قال قائلٌ: بل المراد باليتيمة البكر لم يُدفع، و"تُستأمر" بضمّ أوله يدخل فيه الأب وغيره، فلا تعارض بين الروايات.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: كلام الحافظ - رحمه الله - هذا حسنٌ جدًّا.
وحاصله أن رواية "يستأذنها أبوها" صحيحة؛ لأنها زيادة ثقة حافظ، وهو سفيان بن عيينة، وأيضًا إن رواية "تُستأذن" لا تنافيها، إذ الاستئذان يعمّ الأب، وغيره، وأما رواية "اليتيمة" فتردّ إلى معنى "البكر" جمعًا بين الروايات.
والحاصل أن ما ذهب إليه الأولون - وهو عدم جواز تزويج البكر البالغة بغير إذنها - هو الأرجح، لظهور أدلّته، والله تعالى أعلم.
وأما قول الحافظ: ويبقى النظر في أن الاستئمار، هل هو شرط في صحّة العقد، أو مستحبّ على معنى استطابة النفس، كما قال الشافعيّ؟ كلٌّ من الأمرين مُحْتَمِل. انتهى.
ففيه نظرٌ لا يخفى؛ إذ الاحتمال الثاني - وهو الاستحباب - ضعيف؛ لمخالفته لظواهر الأحاديث المذكورة؛ وأما حديث أبو داود المذكور، فلا يصلح للاحتجاج به؛ لأنه ضعيفٌ، كما مرّ آنفًا، فالاحتمال الأول - وهو كون الاستئمار شرطًا في صحّة العقد - أقوى، لظواهر الأحاديث.
وقد حقّق المسألة العلامة ابن القيّم - رحمه الله -، فقال في "الهدي" - بعد ذكر حديث الاستئذان - ما نصّه: ومُوجَب هذا الحكم أنه لا تُجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تُزوّج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف، ومذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القول الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره، ونهيه، وقواعد شريعته، ومصالح أمّته.
أما موافقته لحكمه، فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة، وليس رواية هذا الحديث مرسلةً بعلّة فيه، فإنه قد روي مسندًا، ومرسلًا، فإن قلنا بقول الفقهاء: إن الاتصال زيادة، ومن وصله مقدّمٌ على من أرسله، فظاهر، وهذا تصرّفهم في