للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

غالب الأحاديث، فما بال هذا، خرج عن حكم أمثاله؟ وإن حكمنا بالإرسال، كقول كثير من المحدّثين، فهذا مرسلٌ قويّ، قد عضدته الآثار الصحيحة الصريحة، والقياس، وقواعد الشرع - كما سنذكره - فيتعيّن القول به.

وأما موافقة هذا القول لأمره، فإنه قال: "والبكر تُستأذن"، وهذا أمرٌ مؤكّد؛ لأنه بصيغة الخبر الدّالّ على تحقّق المخبر به، وثبوته، ولزومه، والأصل في أوامره - صلى الله عليه وسلم - أن تكون للوجوب، ما لم يقم إجماع على خلافه.

وأما موافقته لنهيه، فلقوله: "لا تُنكح البكر حتى تُستأذن"، فأمر، ونهى، وحكم بالتخيير، وهذا إثباتٌ للحكم بأبلغ الطرق.

وأما موافقته لقواعد شرعه، فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرّف أبوها في أقلّ شيء من مالها إلا برضاها (١)، ولا يُجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يُرقّها، ويُخرج بُضعها منها بغير رضاها إلى من يريده هو، وهي من أكره الناس فيه، وهو من أبغض شيء إليها؟ ومع هذا فيُنكحها إياه قهرًا بغير رضاها إلى من يريده، ويجعلها أسيرةً عنده، كما قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا الله في النساء، فإنّهنّ عوان عندكم" (٢)، أي أسرى، ومعلومٌ أن إخراج مالها كلّه بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها، ولقد أبطل من قال: إنها إذا عيّنت كفؤًا تحبّه، وعيّن أبوها كفؤًا، فالعبرة بتعيينه، ولو كان بغيضًا إليها، قَبِيح الخِلْقة.

وأما موافقته لمصالح الأمّة، فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصول مقاصد النكاح لها به، وحصول ضدّ ذلك بمن تبغضه، وتنفر عنه، فلو لم تأت السنّة الصريحة بهذا القول، لكان القياس الصحيح، وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره، وبالله التوفيق.


(١) قال الجامع: في هذا الإطلاق نظر لا يخفى؛ لأن الأب يجوز أن يأكل من مال ولده إذا احتاج إليه بغير رضاه؛ للحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد، وأصحاب السنن عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه"، والبنت يشملها لفظ الولد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(٢) أخرجه الترمذيّ برقم (١١٦٣) وقال: حسنٌ صحيحٌ.